والذي تولى هذا التصحيف والتأويل والتعمية ، إنما هي طائفة متخصصة من أحبار يهود ، بغية الحفاظ على مكانتها ومكاسبها ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١) ، و (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢).
هذا وقد عمد لفيف من رؤسائهم الدينيين إلى أخفاء بعض الأسفار في الهيكل ، وهي التي عرفت بالأسفار الخفية (٣) ، ثم اختلفت نظرتهم إليها ، إذ كان بعضها ، فيما يعتقدون ، غير مقدس ، بينما بعضها الآخر موحي به من عند الله ، وإن رأى الأحبار إخفاءه في الهيكل حتى لا يطلع عليه العامة من القوم ، كما رأوا عدم إدراجه بين أسفار التوراة ، ربما لأن ما به من حقائق لا يتفق وأهواءهم ، وربما لأن ما به من بشارات لا يتلاءم وميولهم العنصرية ، ومن هذا يقول القرآن الكريم (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) (٤) ، ومن ثم فقد كان حكم الإسلام على كتاب اليهود المتداول اليوم ، أنه يحمل بعض لمحات من توراة موسى ، ذلك لأن اليهود إنما قد أوتوا نصيبا منها ، ونسوا نصيبا وخطا ، فلم يحفظوها كلها ، ولم يضيفوها كلها ، وإنما قد حرفوا ما أتوه عن مواضعه تحريفا لفظيا ومعنويا (٥).
ويقول الإمام ابن تيمية : أما من ذهب إلى أنها كلها (أي التوراة) مبدلة من أولها إلى آخرها ، ولم يبق منها حرف إلا بدلوه ، فهذا بعيد ، وكذا
__________________
(١) سورة النساء : آية ٤٦.
(٢) سورة البقرة : آية ٧٩.
(٣) أنظر : عن الأسفار الخفية في التوراة (محمد بيومي مهران : إسرائيل ٣ / ٢١٩ ـ ٢٢٣).
(٤) سورة الأنعام : آية ٩١.
(٥) تفسير المنار ١ / ٢١٣.