المعنى بأكثر من طريقة ، ولذا اختير التعبير باسم الفاعل في اللفظة الثانية ، وكان يمكن التعبير عنها بغير اسم الفاعل كالفعل المضارع (يصفقن) ، وفى اللفظة الثانية كان يمكن التعبير عنها بغير الفعل المضارع ، كأن يعبر عنها باسم الفاعل كسابقتها مثلا.
ولكن الآية قد اختارت اسم الفاعل للتعبير عن الحدث في اللفظة الأولى ، واختارت الفعل المضارع للتعبير عن الحدث في اللفظة الثانية ، وما ذلك إلا رعاية للمعنى الفني الدقيق الذي أرادت الآية أن ترمز إليه وتدل عليه.
قال الزمخشرى : «فإن قلت : لم قيل : (ويقبضن) ، ولم يقل : (قابضات)؟.
قلت : لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، ويكن منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح» (١).
فكأن الآية قد رمزت بذلك ـ فضلا عن إثبات حدثي الصف والقبض ـ إلى أن الصف هو غالب فعل الطير في جو السماء ، وأن القبض يكون عارضا ، وهذا المعنى وإن لم يكن مقصودا بالأصالة من الكلام ، فإن اختيار الآية لهاتين الصيغتين قد شمل هاتين الدلالتين دون أن يزيد في لفظ الكلام ، بل عبر عن المعنى بهيئة اللفظ نفسه وليس بلفظ آخر ، ولو خولفت تلك الصياغة وأريد التعبير عن تلك المعاني ، لقيل : (يصففن غالبا وأحيانا قابضات) ، وفيه من الركاكة والتطويل ما فيه ، فضلا عن أن المعنى المراد إضافته ليس مقصودا من الكلام بالأصالة ، وإنما هو متمم لبيان القدرة وتمام الحكمة ، فكان تضمينه في هيئة الكلمة وبنيتها أولى من الإتيان بلفظ جديد يخصه.
والمقصد هنا بيان قيمة الصياغة والتصريف في التعبير عن المعاني الفنية الدقيقة في أوجز عبارة ، عن طريق الإفادة من المعاني الوظيفية التي يمكن الحصول عليها من تصاريف المادة الواحدة.
لذا كانت عناية اللغويين بهذا العلم الشريف الذى لا تقف قيمته عند صون اللسان عن الخطأ في المفردات ، ومراعاة قانون اللغة في الكتابة كما ذكروا ، وإنما تتخطى ذلك
__________________
(١) انظر الكشاف للزمخشري ٤ / ٥٨٥.