العجمة أتيت أبا عثمان ، إن الوعد غير الوعيد ... (١).
فعمرو بن عبيد هنا ـ إن صحت الرواية ـ قد أخطأ في التفريق بين الصيغتين ، فالوعد مصدر (وعد) ، أما الوعيد فهو مصدر (أوعد) ، فالصيغة الأولى صيغة مصدر ثلاثي ، والثانية صيغة مصدر رباعي ، والخلط بين الصيغتين ومصدريهما قد أدى إلى الانتقال من الضد إلى الضد ، وهذا المعنى الضدي هو ما يستفاد من المعنى الصيغى للكلمة.
وفي اللغة نظائر كثيرة تنقل الصيغة فيها الكلمة من الضد إلى الضد ، كما في «قسط» و «أقسط» ، و «حنث» و «تحنث» ، و «أثم» و «تأثم» ... إلخ ، مع اختلاف أنواع الصيغ الممثل بها.
ويذكر السيوطي كذلك كلاما عن أبى حيان يدلنا على مدى الدور الذى تلعبه تلك الصيغ في التعبير عن المعاني التي لا تكاد تتناهى ، والتي لو لا الصيغ لضاقت اللغة عنها.
يقول أبو حيان : «وأنواع المعاني المتفاهمة لا تكاد تتناهى ، فخصوا كل تركيب بنوع منها ؛ ليفيدوا بالتراكيب والهيآت أنواعا كثيرة ، ولو اقتصروا على تغاير المواد ، حتى لا يدلوا على معنى الإكرام والتعظيم إلا بما ليس فيه من حروف الإيلام والضرب ، لمنافاتها لهما ، لضاق الأمر جدا ، ولا حتاجوا إلى ألوف حروف لا يجدونها ، بل فرقوا بين «معتق» و «معتق» بحركة واحدة حصل بها تمييز بين ضدين» (٢).
وهذا كله يدلنا على خطورة أمر الصياغة والتصريف ؛ إذ إن الخطأ فيها يحول المعنى من الضد إلى الضد.
إن التصريف يثرى اللغة بما يتيحه لموادها من المعاني الوظيفية الكثيرة ، التي تعبر عن المعنى محمولا على هيئة اللفظ دون إرهاق المنشئ بالبحث عن مواد جديدة لأداء تلك المعاني ، ومن ثم فهي تحقق في الوقت نفسه غاية عزيزة من أهم غايات البلاغة ، وهى الإيجاز.
فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] نجد أن لفظتي : (صافَّاتٍ) ـ و (يَقْبِضْنَ) يمكن أن يعبر عن الحدث فيهما ، وهو أصل
__________________
(١) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٢ / ١٧٤ ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ٦٧ / ١١٢ ، والمنتظم لابن الجوزي ٨ / ٦١ ، والمصباح المنير للفيومي ، مادة (وعد).
(٢) انظر المزهر في علوم اللغة والأدب للسيوطي ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.