جاز تقديم «من» المبيّنة على المبهم في نحو قولك : أنا من خطّه في روضة ، ومن رعايته في حرم ، وعندي من المال ما يكفي ، ومن الخيل عشرون ؛ لأن المبهم الذي فسّر بمن التبيينية مقدم تقديرا ، كأنك قلت : أنا في شيء من خطه في روضة ، وعندي شيء من المال ما يكفي ، وكذا قولك : يعجبني من زيد كرمه ، أي من خصال زيد ، كأنك قلت يعجبني شيء من خصال زيد : كرمه ، ومثله : كسرت من زيد يده ، أي : شيء من أعضاء زيد : يده ؛
ففي جميع هذا : المعطوف عليه محذوف والذي بعد «من» عطف بيان له ، كما ذكرنا في باب عطف البيان (١) ؛ كل ذلك ليحصل البيان بعد الإبهام ، لأن معنى يعجبني من زيد ، أي شيء من أشيائه بلا ريب فإذا قلت : وجهه ، أو كرمه ، فقد بينت ذلك الشيء المبهم ؛
وأمّا ما يسمّى «من» التجريدية ، نحو : لقيت من زيد أسدا ، فليس من هذا ، بل هو مثله في حذف المضاف ، أي لقيت من لقاء زيد أسدا ، أي حصل لي من لقائه لقاء أسد ، والمراد تشبيهه بالأسد ؛
وكذا الباء التجريدية في نحو قوله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٢) وقولك لقيت بزيد أسدا ، أي : سل بسؤاله خبيرا ، ولقيت بلقاء زيد أسدا ؛
وقد تكون «من» للبدل ، في نحو قوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)(٣) ، وقوله :
٧٥٩ ـ فليت لنا من ماء زمزم شربة |
|
مبرّدة باتت على الطهيان (٤) |
وتعرف بصحة قيام لفظ «بدل» مقامها ؛
__________________
(١) في الجزء الثاني من هذا الشرح ؛
(٢) من الآية ٥٩ سورة الفرقان ؛
(٣) من الآية ٣٠ سورة التوبة ؛
(٤) قائله يعلى الأحول الأزدي وكان أحد الفتّاك واللصوص. والبيت أحد أبيات يذكر فيها عددا من الأماني ـ