فإنّه ليس من شرط المفتي أن يكون عالماً بجميع أحكام المسائل ومداركها ، فإنّ ذلك ممّا لا يدخل تحت وسع البشر ، ولهذا نُقل عن مالك أنّه سُئل عن أربعين مسألة ، فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.
وأمّا ما فيه الاجتهاد : فما كان من الأحكام الشرعيّة دليله ظنيٌّ ، فقولنا : من الأحكام الشرعيّة ، تمييز له عمّا كان من القضايا العقليّة واللغويّة وغيرها ، وقولنا : دليله ظنيّ ، تمييز له عمّا كان دليله منها قطعيّا ، كالعبادات الخمس ونحوها ، فإنّها ليست محلاّ للاجتهاد فيها ، لأنّ المخطئ فيها يُعدّ آثماً ، والمسائل الاجتهاديّة ما لا يُعدّ المخطئ فيها باجتهاده آثماً. انتهى.
وقال الشاطبي في الموافقات (٤ / ٨٩) ما ملخّصه : الاجتهاد على ضربين : الأوّل : الاجتهاد المتعلّق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأُمّة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعيّ لكن يبقى النظر في تعيين محلّه.
فلا بدّ من هذا الاجتهاد في كلّ زمان ، إذ لا يمكن حصول التكليف إلاّ به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال ، وهو غير ممكن شرعاً ، كما أنّه غير ممكن عقلاً.
وأمّا الضرب الثاني : وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع ، فثلاثة أنواع : أحدها المسمّى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكوراً مع غيره في النصّ ، فينقّح بالاجتهاد ، حتى يميّز ما هو معتبر ممّا هو ملغى.
الثاني المسمّى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أنّ النصّ الدالّ على الحكم لم يتعرّض للمناط ، فكأنّه أُخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي.
الثالث : وهو نوع من تحقيق المناط المتقدّم الذكر ، لأنّه ضربان : أحدهما : ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص ، كتعيّن نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في