في الدرجة الثّانية بعد تأمين الاحتياجات.
إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شيء من أسباب الحياة ، إلّا أنّه يجهل كيفيّة الاستفادة منها ، والمهمّ أن يعرف طريقة استعمالها ، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح ، وكيف أنّ كلّا منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته ، كيف يبني بيتا ، وكيف يتكاثر ، وكيف يربيّ أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء ، أو يعلمهم كيف يواجهون الأعداء؟
والبشر ـ أيضا ـ لديهم هذه الهداية التكوينيّة ، إلّا أنّ الإنسان لمّا كان موجودا يمتلك عقلا وشعورا ، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينيّة مع هدايته التشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة ، بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق ، فإنّه سيصل حتما إلى مقصده. وبتعبير آخر فإنّ الإنسان نتيجة لامتلاكه العقل والإرادة ، فإنّ له واجبات ومسئوليات ، وبعد ذلك مناهج تكامليّة ليس للحيوانات مثلها ، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينيّة محتاج إلى الهداية التشريعيّة.
وخلاصة القول : إنّ موسى عليهالسلام يريد أن يفهم فرعون أنّ عالم الوجود هذا غير منحصر فيك ، ولا في أرض مصر ، ولا يختص بالحاضر أو الماضي ، فإنّ لهذا العالم ماضيا ومستقبلا لم أكن ولم تكن فيه ، وتلاحظ مسألتان أساسيتان في هذا العالم : تأمين الحاجات ، ثمّ استغلال الطاقات والقوى في طريق رقي الموجودات ، فإنّها تستطيع جيدا أن تدلّك على ربّنا ، وتعرّفك به ، وكلّما أمعنت النظر في هذا المجال فستحصل على دلالات وبراهين كثيرة على عظمته وقدرته.
فلمّا سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل ، ألقى سؤالا آخر (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى). وهناك بحث بين المفسّرين في مراد فرعون من هذه الجملة ، فقد أظهروا وجهات نظر مختلفة!
١ ـ فقال بعضهم : إنّ موسى عليهالسلام لمّا ذكر في آخر جملة من كلامه شمول العذاب الإلهي للمكذّبين بالتوحيد ، فإنّ فرعون سأل : إذن فلما ذا لم يبتل أولئك