ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة.
ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من ..؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان؟
لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين.
فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال؟
قال : الشيعة.
قلت : ماذا؟