تتفجَّر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلِّب كفّيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلِّمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فإن تبسَّم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظِّم أهل الدين ، ويتحبَّب إلى المساكين ، لا يخاف القويّ ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه ، وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول : يا دنيا! إليَّ تعرَّضت؟ أم إليَّ أقبلت؟ غرِّي غيري ، لا حان حينك ، قد طلَّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، وقلّة الأنيس.
قال : فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشِّفها بكمِّه ، ثمَّ قال : يرحم الله أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟
قال : كصبر من ذبح ولدها في حجرها ، فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.
قال : فكيف ذكرك له؟
قال : : وهل يتركني الدهر أن أنساه (١).
__________________
١ ـ المحاسن والمساوئ ، البيهقي : ٤٦ ـ ٤٧.