محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن (فِي آذانِهِمْ وَقْراً) انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع ، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفا والماء الملح عذبا وتصيير الطعام القليل كثيرا وما أشبه ذلك. وقال ابن عباس : (كُلَّ آيَةٍ) كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة ؛ انتهى. ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه ، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه.
(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يُجادِلُونَكَ) أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة ، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قدح في أنه كلام الله. قيل : كان النضر يعارض القرآن بإخبار إسفنديار ورستم. وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؛ انتهى. وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن ، والمعنى أنهم في الاحتجاج ؛ انتهى. أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل ، ومجيء الجملة الشرطية ب (إِذا) بعد (حَتَّى) كثير جدّا في القرآن ، وأوّل ما وقعت فيه قوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) (١) وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة لإذا ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط (حَتَّى) التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيدا ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوبا و (حَتَّى) إذا وقعت بعدها (إِذا) يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا (جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) يقول أو يكون التقدير (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن يقولوا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط ، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى (حَتَّى إِذا) وتركيب (حَتَّى إِذا) لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال : أقتلت ، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام ، نحو قوله : (آتُونِي زُبَرَ
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٦.