وتواعدنا أن لا يغادر القريتين إلى أن أرسل وأحضره عندي على أهون طريقة ، وطال بنا الحديث إلى أن قارب منتصف الليل.
طلبنا النوم لنستريح من تعب الدنيا ، فأخذني عندئذ القلق وتراكمت علي الأفكار من مليح وقبيح حتى كاد يبزغ الفجر. فغفلت عندئذ ورأيت في منامي أني على رأس جبل عال سليخ (١) ، ليس به شجرة ولا عرق أخضر. وبأسفل الجبل يمر نهر عظيم يخطف الطير ، فارتعت من ذلك ونمت على رأس ذلك الجبل ، ورأيت شجرة تخرج من فمي وتعلو وتكبر حتى شقت أحناكي من الجانبين وصارت مثل القبة الخضراء. وابتدأت أشعر بألم في فمي وقلبي ، وأحسّ بأن شروشها تخرج من قلبي ، فصرت أئنّ وأصرخ في نومي من شدة الوهم والألم العظيم ، حتى فاق الشيخ إبراهيم ، فأسرع نحوي لأنه عرف أنني في اضغاث الأحلام ، فهزّني حالا إلى أن صحوت ، فنهضت من نومي مثل المجنون أبكي من الرعب (٢) ، وأشعر بألم بفمي وقلبي. فقصصت منامي على المذكور ، فتعجب من ذلك وقال : هذا حلم عظيم ، وله تفسير جيد وأن حاجتنا بإذن الله منقضية ، ولكن بشيء من الخطر والتعب.
وفي اليوم الثاني ، أحضرت مصطفى الجمّال ـ وهذا هو اسم الشخص الذي سيرافقني ـ وحضر معه موسى الوردي عند الشيخ إبراهيم ، وأتممنا الرباط وتم قرارنا على الذهاب مساء مع غياب الشمس. فأحضر لي موسى ألبسة للطريق وهي ألبسة عظيمة : أولا قميص خام وسخ / مقطع ، قنباز (٣) كان أصله قطنيا ما بقي منه غير الرسم ، كوفية عليها الدهن ويشتم منها رائحة الخمامة من بعيد ، خرقة في الأصل بيضاء ولكن مزفتة وسخة شنيعة لففتها على رأسي ، فروة غنم قديمة منهوشة من أطرافها ليس بها موضع سليم ، ولو بقدر كف وهي ملآنة قملا ، بقدمي حذاء وزنه نحو رطل حلبي قديم ، زناري سير جلد يساوي درهمين (٤) ، وقداحة ، وفي جيبي قليل من التوتون وقصبة طولها شبران من غير طقم. ثم كحلت عيوني بسواد الطنجرة ، وكانت لحيتي قد نمت وصار طولها نحو ثلاثة أصابع. وبهذه الهيئة طلعت أمام الشيخ إبراهيم. فصار يبكي ويضحك في آن واحد ، وقال : إن كنت
__________________
(١) كذا والمعنى غير واضح ، ولعله يريد : قفر.
(٢) «بكيان مرعوب».
(٣) «غنباز».
(٤) «مصريتين». ولا شك في أن الصايغ يميل إلى المبالغة على حسب عادته.