لا يدروا إنسان» (١) ، إلى أن طلع الضوء ، وإذا من بعيد ، على مسافة ربع ساعة ، جمالان يرعيان على رأس تل. فخاف مصطفى جدا وقال لي : لا شك أنها هجن غزاة غرباء ، وإن ظفروا بنا فإنهم ينهبوننا وننقطع في هذه الأرض ونموت من الجوع. فالرأي عندي أن نطمر أنفسنا بالرمل إلى أن يذهبوا. فقلت أفعل ما هو أنسب. فحالا حفر الرمل وطمرني إلى رقبتي ، ثم ابتعد عني قليلا وطمر أيضا نفسه. والجمال كانت تغيب وتعود وتختفي وراء التل ، ثم تعود ترعى إلا أن عددها كان دائما اثنين ، لا يزيد ولا ينقص ، إلى أن صار نصف النهار ، وإذا بمصطفى راكض إلى صوبي ويقول : قم ولا تخف فإنها ليست جمالا ، ولكن نعامات أنثى وذكر ترعى. وذلك لأن طير النعام يكون بحجم الجمل الصغير ، ومن بعيد لا يمكن تمييزه عن ١ / ٣٤ الجمل فقمت / ونفّضت حالي من الرمل ، وشممت الهواء ، وأكلت وشربت قليلا من الماء من الجود التي معنا وحمدت الله.
ثم قال مصطفى : نم كي تستريح ، وسنمشي هذه الليلة أكثر ، لأن دربنا أكثره رمل ، وهذا سهل على رجليك. فسررت (٢) من هذا الخبر ونمت إلى غياب الشمس ، ثم قمت وأكلت لقمة ومشينا وبعد مسيرنا بساعتين صرنا أمام تدمر من جهة القبلة ، ولم نزل نمشي إلى أن قارب الفجر ، وقد أضواني (٣) التعب والسهر. فجلسنا بين تلين من الرمل كل النهار إلى المساء. ثم مشينا إلى أن لاح الفجر ووصلنا إلى نهر يقال له نهر الرحيبة ، وهو عظيم آتيا من القبلة وذاهبا إلى الشمال. فخلع مصطفى ثيابه وحملني وقطع بي إلى شرقي النهر. ثم عاد وأحضر ثيابه وقال امشي. قلت له : يا حبيبي قد طلع النهار. فقال : ولو طلع النهار ، إذ لا ينبغي أن نبقى إلى جانب النهر ، إذ يرد إليه الغزاة والعربان من جميع الأشكال فيروننا والأحسن أن نبعد نحو ساعة عن حافة النهر ونكمن ، لأن المكان الذي قطعناه يسمى المخاضة. فجلسنا تحت ظلال أشجار جميلة إلى ضحوة النهار ، وإذا بغزو كبير مكون من أربع زردات (أعني طوابير ، وهذا اصطلاح لغة العرب) ، من خيل وركب أي هجن ، نحو ألفين آتين من الشرق فقطعوا نهر الرحبية وذهبوا نحو المغرب. فقال لي مصطفى : كيف تكون حالنا لو بقينا على المخاضة ، كنا قتلنا لأن هؤلاء ليسوا من عربان ديرتنا ، بل من ربع الوهّابي ، أتوا ليغزوا على عربان هذه الديرة. وهؤلاء لا يرضون فقط بالنهب ولكنهم يقتلون
__________________
(١) كذا ، والله أعلم بمراده.
(٢) «فانبسطت».
(٣) «ضامني».