والعبّاس ، وأبو لهب الكافر الخبيث فقدمت إليهم تلك الجفنة ، فأخذ منها رسول الله صلىاللهعليهوسلم حذية (١) فشقّها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال : «كلوا بسم الله». فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما يرى إلّا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اسقهم يا علي». فجئت بذلك القعب (٢) ، فشربوا حتى نهلوا جميعا ، وأيم الله ، إن كان الرجل منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لهدّما (٣) سحركم صاحبكم! فتفرّقوا ولم يكلمهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما كان الغد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا علي ، عدّ لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشّراب ، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما قد سمعت قبل أن أكلم القوم». ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم فشربوا من ذلك القعب حتى نهلوا عنه ، وأيم الله ، إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ، ويشرب مثله ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا بني عبد المطّلب ، والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة» (٤).
فكان ما أخفى النبي صلىاللهعليهوسلم أمره واستسرّ به إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين من مبعثه.
وعن ابن عباس قال (٥) : لما أنزل الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصفا فصعد عليها ثم نادى (٦) :
«يا صباحاه». فاجتمعت إليه قريش فقالوا له : ما لك؟ قال : «أرأيتم لو أخبركم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم ، أما كنتم تصدقوني»؟ قالوا : بلى ، قال : «فإني نذير لكم ، بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب : تبا لك ، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ)(٧) إلى آخر السورة.
[وفي (٨) رواية عنه أيضا : قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال :
__________________
(١) الحذية من اللحم ما قطع طولا ، وقيل : هي القطعة الصغيرة.
(٢) القعب : القدح الضخم.
(٣) لهدّ : كلمة تعجب.
(٤) الخبر السابق أثبتناه عن مختصر ابن منظور.
(٥) من طريقه رواه البيهقي في دلائل النبوة ٢ / ١٨٢.
(٦) العبارة في مختصر ابن منظور : وقال ابن عباس : صعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم الصفا فقال.
(٧) سورة المسد ، الآية الأولى.
(٨) الخبر التالي بهذه الرواية استدرك عن مختصر ابن منظور.