الجفاء لا تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟! فاعتذرت إليه باتصال الخدمة عليّ ، فقال : ما تقنعني إلّا أن تزورني اليوم وتتفرج ، فقلت : أنا خادم الوزير ، فأخذني إلى طيّارة (١) وجعل يسألني عن حالي وأخباري فأشكو إليه الخلة ، والإضافة ، والدّين ، والبنات ، وجفاء الخليفة وإمساكه يده ، فيتوجع ويقول : يا هذا مالي لك ، ولن يضيق عليك ما يتسع علي [أو تتجاوزك نعمة تحصلت لي ، أو يتخطاك حظ فإنك في فنائي](٢) ، ولو عرّفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك ، فشكرته. وبلغنا داره ، فصعد ولم ينظر في شيء وقال : هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبي محمد ، فلا يقطعني أحد عنه. وأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال ، وخلا بي في دار الخلوة ، وجعل يجاذبني (٣) وينشطني ، وقدمت الفاكهة فجعل يلقّمني بيده ، وجاء الطعام ، فكان هذا سبيله ، فلما جلس للشرب وقع لي بثلاثة آلاف دينار فأخذتها للوقت ، وأحضرني ثيابا وطيبا ومركوبا فأخذت ذلك ، وكان بين يديه صينية فضة فيها مغسل فضة وخرداذيّ (٤) بلور وكوز وقدح بلور ، فأمر بحمله إلى طيّاري (٥) ، وأقبلت كلما رأيت شيئا حسنا له قيمة وافرة طلبته. وحمل إلي فرشا نفيسا وقال : هذا للبنات. فلما تقوض المجلس خلا بي وقال : يا أبا محمد ، أنت عالم بحقوق أبي عليك ، ومودتي لك ، فقلت : أنا خادم الوزير ، فقال : أريد أن أسألك عن شيء ، وتحلف لي أنك تصدقني عنه ، فقلت : السمع والطاعة ، فأحلفني بالله وبالطلاق والعتاق على الصدق ، ثم قال : بأيّ شيء سارّك الخليفة اليوم ، في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفا بحرف ، فقال : فرجت عني ، ولكون هذا هكذا مع سلامة نيته لي انهلّ (٦) علي ، فشكرته وودّعته ، وانصرفت. فلما كان من الغد باكرت المعتضد فقال : هات حديثك ، فسقته عليه فقال : احفظ الدنانير ولا يقع لك أني أعمل مثلها معك بسرعة.
قال محمد بن يحيى الصولي (٧) :
__________________
(١) في مختصر ابن منظور : طياره ، وفي تاريخ بغداد : طيارة.
(٢) الزيادة بين معكوفتين استدرك عن تاريخ بغداد.
(٣) في تاريخ بغداد : يحادثني ويبسطني.
(٤) الخرداذي : الخمر ، مركبة من الخر والداذي ، ومعناه : شراب الحمار (انظر تاج العروس : خردذ ، ودوذ).
(٥) في تاريخ بغداد : طيارتي.
(٦) في تاريخ بغداد : أسهل عليّ.
(٧) الخبر رواه المعافى بن زكريا الجريري في الجليس الصالح الكافي ١ / ٤١٩ وما بعدها نقلا عن محمد بن يحيى الصولي. وروى القصة عن محمد بن يحيى الصولي أيضا ابن الجوزي في المنتظم ١٢ / ٣٩٩ وما بعدها في حوادث سنة ٢٨٦.