هذا ، وأما ما تكرر في كلام جماعة من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين من أن بعض الأمور علل تامة للحسن أو القبح ، ولا تنفك عن أحدهما ، كما لا تقبل المزاحمة ، كالعدل والإحسان والظلم والعدوان.
فيتضح الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.
ثانيها : ما قيل إنه أهم أدلتهم ، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء ، مع وضوح الفرق بنيهما ، فإن الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع وقوع الاختلاف في الأول.
وفيه : أن الملازمة ممنوعة ، إذ لا ملزم باتفاق المدركات العقلية بالوضوح والخفاء ، بل تختلف باختلاف القضايا ، فقضية أن الكل أعظم من الجزء لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها كانت من الأوليات التي يكون التصديق بها لازما لمفهوم طرفيها ، بخلاف قضية التحسين والتقبيح ، فإنها وإن كانت قطعية ، إلا أنها غير لازمة لمفهوم طرفيها ، بل يحتاج التصديق بها إلى شيء من التروي والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة للتنبيه ، وإلى التمييز بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الدعويات النفسية المتقدمة ، وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها والإشكالات عليها حتى قد يلتبس الأمر على النفس ويضيع عليها مقتضى المرتكزات.
وأما ما يظهر من بعضهم ـ فيما يأتي عند الكلام في حقيقة الحكم المذكور ـ من أن القضية المذكورة من القضايا التأديبيّة التي لو خلي الانسان وعقله المجرد لم يذعن بها ، بل لا بد في إذعانه من أن يؤدب بقبولها والاعتراف بها تبعا لمشهوريتها عند العقلاء وتطابق آرائهم المحمودة عليها.
فهو غير ظاهر بعد الرجوع للمرتكزات ، بل الظاهر ما ذكرنا من كفاية تنبيه العقل إليها وتمييز الدواعي العقلية عن غيرها في إذعان النفس بها ما لم تمنع