من الله عليهم أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك ؛ لأنها خلقت على الفطرة ، والتمكن من قبول الحق ، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) أي فإيمانا قليلا يؤمنون ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب ، أو ببعض الوحي ، وقيل القلة بمعنى العدم و (ما) في الآية مزيدة أي لا يؤمنون بشىء. وقيل : فقليل منهم من يؤمن ، والأقوى الأول. دلت الآية على أن الإيمان ببعض الكتاب أثر من آثار الطرد من رحمة الله ، وأن سبب الطرد هو الكفر ، وأن من أسباب الكفر اتهام الله ، والتبجح في الوصف الكافر.
(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي ولما جاء اليهود القرآن المصدق للتوراة (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي على المشركين. ذكر ابن كثير عن ابن عباس : «أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن معرور ، وداود بن سلمة : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ونحن أهل شرك ، وتخبروننا بأنه مبعوث ، وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشىء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله في ذلك من قولهم (وَلَمَّا جاءَهُمْ) ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) أي فلما جاءهم ما عرفوه من الوحي والنبوة كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي فلعنة الله عليهم. ووضع الاسم الظاهر بدل الضمير للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم ، أو أن المعنى : أن لعنة الله على كل كافر ، واليهود دخلوا في ذلك دخولا أوليا ؛ لأنهم أحق الناس أن يؤمنوا. (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الشراء هنا البيع. والبغي الحسد. فصار المعنى : بئسما باعوا به أنفسهم ، باعتياضهم الكفر بما أنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم بدلا من تصديقه ومؤازرته ونصرته ، وإنما حملهم على ذلك ، البغي ، والحسد ، والكراهية لأن ينزل من الوحي على من يصطفيه من عباده ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا حسد أفظع من هذا النوع من الحسد لأنه معاندة مباشرة ، واعتراض مباشر على الذات الإلهية (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي رجعوا بسبب سيرهم هذا مستوجبين مستحقين الغضب على الغضب. أي الغضب المترادف ، غضب بسبب ما ضيعوا من التوراة ، وغضب بسبب كفرهم بعيسى وبالإنجيل ، وغضب بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم وبالقرآن ، ومن ثم فقد فسر رسول الله صلىاللهعليهوسلم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (في الفاتحة) بأنهم اليهود لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه وينحرفون عنه