لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ...».
(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) أي الموت (أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي لن يتمنوه ما عاشوا بسبب ما أسلفوه من الكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وتحريف كتاب الله وغير ذلك ، وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكانوا يستطيعون أن يكذبوا القرآن بإعلانهم أنهم يتمنون الموت ولكنهم لم يفعلوا. قال ابن عباس : «ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات». (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ومن علمه جل جلاله أنه تحداهم ، ومن علمه أنه أخبر أنهم لن يتمنوه ، وكان كما أخبر ، وفي النص تهديد لهم.
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) هذه تتمة الحجة عليهم في أنهم أهل باطل. ظهور هذا الحرص العظيم عندهم على الحياة ، فهم كالمشركين في هذا الحرص ، أو أشد حرصا من المشركين ، فلو كان إيمانهم بالله واليوم الآخر سليما ، واستقامتهم موجودة لما كانوا كذلك ، والتنكير في لفظ (حَياةٍ) يدل على أنهم يرغبون بالحياة المتطاولة مهما كان نوع هذه الحياة ، فهم أحرص الناس على طول العمر ؛ لما يعلمون من مآلهم السىء ، وعاقبتهم الخاسرة عند الله لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ.) هل الضمير (أَحَدُهُمْ) يعود على المشركين أو على اليهود؟ قولان للمفسرين فعلى القول أنه يعود على اليهود يكون المعنى : أن اليهود أحرص الناس على الحياة وهم أحرص من المشركين عليها ، حتى أن أحدهم يتمنى لو عمر ألف عام ، وعلى القول بأن الضمير يعود على المشركين يكون المعنى : أن المشرك يود لو عمر ألف عام فهو حريص على الحياة ومع ذلك فاليهود أحرص منه على الحياة ، وفيه توبيخ عظيم لليهود لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ، ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم ، فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار ، والمشركون لا يعلمون ذلك. قال مجاهد : «حببت إليهم الخطيئة طول العمر». وقد دلت الآية على أن المؤمن الحق يحب الآخرة أكثر من الدنيا ، ويحب الموت أكثر من الحياة ، وقد أدبنا رسولنا عليه الصلاة والسلام ألا نتمنى الموت لضر أصابنا ، بل نقول : «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وأمتني ما كان الموت خيرا لي ، واجعل لحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون». ثم قال تعالى :