«والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ...) قال النسفي : «وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة» أقول : والذين لا يعطون العواطف البشرية العميقة في النفس البشرية حقها مخطئون ، فالحرج أن تتجاوز العواطف البشرية حدودها المشروعة ، أو تؤثر على النكوص عن أمر أو الوقوع في نهي (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي وبصرنا متعبداتنا في الحج ، أو عرفنا إياها وواحد المناسك : منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك أقول : وقد عرف الله إبراهيم على المناسك ، وإن حجنا الحالي كله له صلة بإبراهيم وآله عليهمالسلام كما سنرى ذلك. (وَتُبْ عَلَيْنا) ما فرط منا من التقصير. قالا ذلك هضما لنفسيهما وإرشادا لذريتهما وللخلق (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) لمن تاب (الرَّحِيمُ) بعباده (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من الذرية أي وأرسل فيهم رسولا لهم من أنفسهم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلىاللهعليهوسلم رسولا في الأميين إليهم ، وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن ، فكانت دعوة مستجابة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك ، وصدق أنبيائك ورسلك (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ ،) قال الألوسي «بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ويوقفهم على حقائقه وأسراره ، والظاهر أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون ـ الرسول ـ صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن» أقول : كانت هذه الدعوة قبل إنزال التوراة على موسى (عليهالسلام) بسنين طويلة ، وهذا يقتضي إما أنهما دعوا بذلك بإخبار من الله تعالى أنه سينزل كتبا ، أو بمعرفة عن الكتب ، وعلى القول الثاني فإن احتمال أن يكون هناك كتب منزلة من الله قبل التوراة والزبور والإنجيل يبقى قائما ، وإن كثيرا من الأمم كأهل الهند وفارس تدعي وجود كتب مقدسة عندها ، فهل لهذه الكتب أصل ، ثم طرأ عليه ما طرأ؟ موضوع قابل للدراسة ، وإن دراسة مستوعبة مقارنة شاملة يمكن أن توصلنا إلى بعض الحقائق مع الاحتراس الكثير (وَالْحِكْمَةَ) أي : ويعلمهم الحكمة وهي : وضع الأشياء في مواضعها : سواء كانت دنيوية أو أخروية ، وإذ كانت الحكمة هي ما سوى الكتاب من تعليم الرسل ، فإن كل ما علمنا إياه رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسمى حكمة ، ومن ثم فسر بعضهم الحكمة بالسنة وفسر ابن إسحاق دعوة إبراهيم وإسماعيل بتعليم الكتاب والحكمة بقوله : «يعلمهم الخير فيعقلوه ، والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضى الله عنهم إذا أطاعوه ، ليستكثروا من طاعته ، ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته» أقول فكأنه فسر