إحداهما تناقش الراغبين عنه ؛ ولذلك تبدأ بقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).
والثانية : تناقش الداعين إلى غيره ؛ ولذلك فإنها تبدأ بقوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ..) فنحن الآن إذن في الفقرة التي تناقش الراغبين عن الإسلام : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) هذا استفهام فيه معنى الإنكار والاستبعاد أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح ، الذي هو ملة إبراهيم ، والملة : هي السنة والطريقة وقوله (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي جهل نفسه فظلمها بسفهه ، وسوء تدبيره ؛ بتركه الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطفاه الله في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنة ، إلى أن اتخذه الله خليلا ، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء ، فمن ترك طريقه ومسلكه وملته ، واتبع طرق الضلالة والغي ، فأي سفه أعظم من سفهه ؛ أم أي ظلم أكبر من ظلمه ؛ كما قال تعالى (في سورة لقمان) : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) هذا بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملة إبراهيم ، لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ.) هذا بيان لسبب الاصطفاء أنه أمر بالإسلام والاستسلام لله فأسلم واستسلم ، والإسلام فيه معنى التسليم والإذعان والطاعة والإخلاص لله.
فوائد :
١ ـ اصطفاء إبراهيم في الدنيا أي : اختياره بالرسالة واجتباؤه من سائر المخلوقات ، وكونه في الآخرة من الصالحين شهادة له بفعل الصلاح ، والثبات على الاستقامة والخير والصلاح ، فاجمع له الكمالات الدنيوية والأخروية. فالسفيه وحده أي : الجاهل الخفيف العقل هو الذي يرغب عن طريق فيه خير الدنيا والآخرة.
٢ ـ ذهب أبو العالية وقتادة : «أن هذه الآية نزلت في اليهود ؛ أحدثوا طريقا ليست من عند الله ، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه» والقاعدة أن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، فما من إنسان يرغب عن ملة إبراهيم إلا جاهل لنفسه ، إذ الوضع الصحيح للنفس أن تكون مستسلمة لله علما وحالا وسلوكا ، وكان إبراهيم إماما في ذلك ، فالرغبة عن هذه الطريقة لا تكون إلا أثرا عن الجهل والسفه والطيش.