تفسيرها وجوه كثيرة نختار منها وجها : أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب ، ولكنه مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله ، فلا يملكون لهذا التحدي جوابا.
والشأن في هذا الإعجاز : هو الشأن في خلق الله جميعا ، وهو مثل صنع الله في كل شىء وصنع الناس. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات ، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة ، أو آجرة ، أو آنية ، أو أسطوانة ، أو هيكل ، أو جهاز كائنا في دقته ما يكون ، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة ؛ حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز ، سر الحياة. السر الذي لا يستطيعه بشر ولا يعرف سره بشر ، وهكذا القرآن حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا. والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض ، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة».
أقول وصدق الله العظيم (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)
(سورة الشورى)
هذه الملاحظة التي سجلها صاحب الطلال ببيانه المشرق سجلها علماء المسلمين قديما ، إلا أنه في عصرنا ـ فيما أعلم ـ سجلت ملاحظة أخرى إضافية حول هذه الأحرف وهي ما ذكرناه في الفصل السابق من أن فواتح السور ـ ومنها الأحرف ـ هي مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية ، وهذا الموضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا في هذا التفسير. ولنكتف هنا بتسجيل هاتين الملاحظتين حول الأحرف التي افتتحت بها بعض السور ، ولنا عودة على ما قيل في هذه الأحرف في أول سورة يونس حيث أول القسم الثاني من أقسام القرآن.