يتعاطون البرهان والوجدان.
فإن قلت : لم يطلب فرعون من موسى عليهالسلام إلا أن يعرّفه ما هذا الذي يسميه ربّ العالمين؟ وما حقيقته؟ لكونه غير معقول عنده ، فلم يسأل إلا التصور ، فما معنى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؟ واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا.
على أنه عليهالسلام لم يأت في جواب فرعون بشيء ، غير أنه وضع لفظ السماوات والأرض وما بينهما موضع لفظ العالمين ، فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد وعمرو ، فلم يفد بالآخرة إلا التصور الأوّل ولا تأثير لليقين في ذلك.
قلت : كون فرعون يسأله أن يصوّر له (رَبُّ الْعالَمِينَ) تصويرا مسلّم ، لا شك فيه ، لكن موسى بدّل القول بوضع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) مكان العالمين ، وهو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض ، والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها ، والنظام الجاري عليها ، ثم قيّده بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ليدلّ على أن أهل اليقين يصدّقون من ذلك بوجود مدبّر واحد لجميع العالمين. فكأنّه قيل له : ما تريد برب العالمين؟ فقال : أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بارتباط التدبير واتصاله في عوالم السماوات والأرض وما بينهما ، على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا ، وربّا لا شريك له في ربوبيته لها ، وإذ كانوا يصدّقون بوجود ربّ واحد للعالمين ، فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور» (١).
ولكن هذا الذي ذكره المفسر الجليل لا يوحي به اللفظ (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) لأن المسألة المطروحة ليست الاستدلال على أن للسماوات والأرض وما بينهما ربّا من موقع طبيعة الموضوع ، بل المطروح فيما بينهم
__________________
(١) تفسير الميزان ، ج : ١٥ ، ص : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.