الذاتية ، لأنهم يعلمون من خلال اختصاصهم ، أنه لا يملك علم ذلك ولا القدرة عليه ، ولهذا رأوا فيه الرسالة المنطلقة من الله الذي كان يصفه موسى بأنه رب العالمين ، الذي عرفوه من خلال المعجزة فآمنوا به من خلال الرسالة التي يمثلها موسى وهارون.
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) فقد اعتاد أن يضغط على تفكير الناس في ما يؤمنون به أو يكفرون ، وما يتحركون فيه من مواقف ومشاريع ، فلا بد من أن يستشيروه في مسألة الإيمان ليأخذ النتائج بما واجهه من موقف موسى ، فليس لهم أن يأخذوا موقفا حاسما قبله ، ولهذا فإنه لا يفهم أن من الحق لأتباعه أن يكون لهم فكر مستقل وإرادة مستقلة في وعي الأشياء التي تحدث في حياتهم ، أو يواجهون بها القضايا التي تتحداهم. ولهذا لم يحاول أن يفهم المسألة في اتجاه القناعة الذاتية في موقف الإيمان ، بل حاول أن يفسره بالتامر عليه ، في ما يفرضه من علاقة خفية بينهم وبين موسى ، لتكون القضية تمثيلية في غلبة موسى عليهم ، لا حقيقية لتوحي بما أوحت به إليه ، وهكذا أطلق التهمة الصارخة في وجوههم ، ليخرج ـ من خلالها ـ من مأزقه المحرج.
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) كيف أعاقبكم على هذه المؤامرة الخطيرة التي تعرّضون فيها كيان الملك للخطر ، (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) وذلك بأن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لتموتوا موثوقين مرتبطين بالحبال على الصليب.
ولكن ذلك لم يهزم إيمانهم ولم يضعف موقفهم ، بل واجهوه بصلابة في الإرادة واستهانة بتهديده ، وارتفاع بالموقف إلى المستوى الرفيع في آفاق الله (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فلن يضرنا تهديدك وعذابك ، لأننا سننتقل منه إلى الدار الآخرة التي يشملنا فيها ربنا برحمته ، (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا)