وقد توحي هذه الكلمات للنبيّ بأن عليه أن لا يأخذ المسألة مأخذ الأهمية القصوى بالمستوى الذي يضغط على حياته ، بل ينبغي له أن يتقبلها بشكل طبيعيّ لأنه قد بذل كل جهده في هدايتهم ، ولأن الرفض الذي يواجه به ، ليس رفضا له بصفته الذاتية بل بصفته الرسالية ، مما يجعل القضية موجهة إلى الله سبحانه ، ولأنهم قد اختاروا الكفر بعد إقامة الحجة عليهم ، في وضوح الرسالة ، فلم يكفروا من موقع غموض أو شبهة ، فلا حجة لهم في ذلك. وإذا كان النبي ينطلق في شعوره العميق بالألم من موقع النصرة لله ، فإن الله قادر على أن يهلكهم جميعا ، على أساس قدرته المطلقة ، ولكن حكمته في تنظيم حركة الناس في الإيمان والكفر ، جعلته يؤخرهم إلى أجل مسمّى ، فلا ضعف في الموقف ، بل هي القوة التي لا تخاف الفوت.
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) مما كان ينزل على الأمم السابقة التي كانت تكذب الأنبياء ، فيضطرهم ذلك إلى الإيمان في مواقع التحدي ، أو يهلكهم بما تشتمل عليه من العذاب ، (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) إذعانا وخضوعا وانسحاقا أمامها. ولعل ذكر الأعناق هنا ورد على سبيل الكناية أو المجاز في التعبير عن ذواتهم ، باعتبار أن الخضوع أول ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطئ رأسه ، فهم خاضعون لله في ما يريد أن يصنع بهم أو ينزله عليهم ، فإذا شاء ذلك في أيّ وقت ، فلا بد لهم من أن يخضعوا له ، ولكنه لم يشأ ذلك من خلال حكمته ورحمته.
(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) من القرآن الذي جاءهم به رسول الله والذي كان حدثا جديدا في حياتهم مما لم يألفوا أسلوبه ولم يعرفوا مضامينه ، (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) لأنهم لا يطيقون الإيمان بالوحي الجديد النازل على رجل منهم لا يملك الموقع الطبقي الذي يملكه علية القوم ، كما هو المجتمع المتخلف الجاهلي الذي يخضع للأجواء الثقافية التقليدية المرتكزة على عقائد