ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) لانّهم كانوا طالبين للحقّ فأينما وجدوه عرفوه (يَقُولُونَ) انقيادا للحقّ (رَبَّنا آمَنَّا) بما انزل الى الرّسول (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) بحقيّته (وَ) يقولون (ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) بعد معرفة الحقّ وطلبه (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) وقد كنّا طالبين له ووجدناه (وَ) الحال انّا (نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) جنّته أو محضره (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) بلسان القال والحال أو بلسان القال قرينا بالاعتقاد فانّه عبادة لسانيّة وكمال الايمان بإقرار اللسّان منبئا عن الجنان (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) وقد نقل انّ نزول الآية في النّجاشىّ وبكائه حين قرأ جعفر بن أبى طالب (ع) وقت هجرته الى الحبشة عليه آيا من القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال فالّذين آمنوا وصدّقوا بآياتنا أولئك أصحاب الجنّة والّذين كفروا الى آخرها وهو لبيان حال منافقي الامّة أو للتّعريض بهم فانّ عليّا (ع) أعظم الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة على ان يكون النّظر الى من نزلت فيه ، فانّهم كانوا ثلاثة منهم أمير المؤمنين (ع) ولا يكون مرافقة علىّ (ع) في الارتياض الّا لمن كان مثله داخلا في قلبه الايمان سالكا الى الله رفيقا له في الطّريق ، أو بالبيعة العامّة النّبويّة على ان يكون النّظر الى التّعميم وان كان النّزول خاصّا لانّ النّهى عامّ للمسلمين (لا تُحَرِّمُوا) على أنفسكم (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب عديدة بعضها فوق بعض الى ما لا نهاية له ، والتّكاليف الالهيّة الواردة عليه ليست لمرتبة خاصّة منه بل كما عرفت سابقا للمفاهيم الواردة في التّكاليف مصاديق متعدّدة بتعدّد مراتب الإنسان بعضها فوق بعض ، فكلّما ورد في الشّريعة المطهّرة من الألفاظ فهي مقصودة من حيث مفاهيمها العامّة باعتبار جميع مصاديقها بحيث لا يشذّ عنها مصداق من المصاديق فالإنسان بحسب مرتبته النّباتيّة له محلّلات الهيّة ، وبحسب مرتبته الحيوانيّة اخرى ، وبحسب الصّدر اخرى ، وبحسب القلب اخرى ، وبحسب الرّوح اخرى ، والتّحريم الالهىّ في كلّ مرتبة بحسبه ، وكذا تحريم الإنسان على نفسه فالمحلّلات بحسب مرتبته الحيوانيّة والنّباتيّة ما أباح الله له من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمنكوح والمسكن والمنظور ، وبحسب الصّدر ما أباح الله له من الأفعال الاراديّة والأعمال الشّرعيّة والتّدبيرات المعاديّة والمعاشيّة والأخلاق الجميلة والمكاشفات الصّوريّة ، وبحسب القلب ما أباح الله له من الأعمال القلبيّة والواردات الالهيّة والعلوم اللّدنيّة والمشاهدات المعنويّة الكلّيّة ، وهكذا في سائر المراتب ، والطّيّبات من ذلك في كلّ مرتبة ما تستلذّه المدارك المختصّة بتلك المرتبة ، ومطلق المباح في كلّ مرتبة طيّب بالنّسبة الى مباح المرتبة الدّانيّة منه ، وانّ الله تعالى يحبّ ان يؤخذ برخصة كما يحبّ ان يؤخذ بعزائمه ، ولا يحبّ الشّره والاعتداء في رخصه بحيث يؤدّى الى الانتقال الى ما هو حرام محظور بأصل الشّرع ، أو بحيث يؤدّى الى صيرورة المباح حراما بعرض التّجاوز عن حدّ التّرخيص بالإكثار فيه كما لا يحبّ الامتناع عن رخصه ، فمعنى الآية يا ايّها الّذين آمنوا لا تمتنعوا من الرّخص ولا تحرّموا بقسم وشبهة ولا بكسل ونحوه على أنفسكم ما تستلذّه المدارك بحسب كلّ مرتبة وقوّة ممّا أباحه الله لكم ، لانّ الله يحبّ ان يرى عبده مستلذّا بما أباحه له كما يحبّ ان يراه مستلذا بعباداته ومناجاته ، ولا تمتنعوا بالاكتفاء بمستلذّات المرتبة الدّانية عن مستلذّات المرتبة العالية ، فانّه يحبّ ان يرى عبده