في مخالفة أمره ونهيه لانّ حشركم يكون اليه (جَعَلَ اللهُ) جملة مستأنفة في مقام التّعليل لتحريم صيد البرّحين الإحرام لزيارة البيت أو حين دخول الحرم الّذى هو حريم البيت ، وجعل بمعنى صيّر أو بمعنى خلق (الْكَعْبَةَ) سمّى الكعبة كعبة لتكعّبه والعرب تسمّى كلّ مربّع ونأت كعبا وكعبة (الْبَيْتَ الْحَرامَ) مفعول ثان أو بدل من الكعبة والتّوصيف بالحرام لحرمة هتكه بأخذ الصّيد من حواليه واقتصاص الملتجى الى حريمه الّذى هو الحرم (قِياماً لِلنَّاسِ) مفعول ثان أو حال من قام إذا اعتدل اى جعلها سبب اعتدال للنّاس أو جعلها معتدلة لانتفاع النّاس ، أو من قام المرأة إذا قام بشأنها وكفى أمرها والمعنى جعلها كافية للنّاس أو بمعنى القوام الّذى هو ما يعاش به أو بمعنى ملاك الأمر وعماده يعنى جعلها عماد جملة الأمور للنّاس في معادهم ومعاشهم (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) اى جنس الشّهر الحرام وافراده اربعة ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب أو الشّهر الحرام المعهود اى شهر الحجّ وهو عطف على الكعبة سواء قدّر توصيفه بكونه قياما للنّاس أو لم يقدر (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) اى ذوات القلائد أو القلائد أنفسها وقد مضى ذكرها في اوّل السّورة ، اعلم ، انّ جعل كعبة القلب بيت الله الحرام وسبب اعتدال للنّاس في العالم الصّغير وكافية لأمورهم وما به تعيشهم وملاك أمرهم وعمادهم واضح وكذلك كون الشّهر الحرام الّذى هو الصّدر وهدى القوى وقلائدها أو ذوات القلائد منها ، وكون صاحب القلب وصاحب الصّدر والطّالبين للوصول إليهما قياما للنّاس لا خفاء فيه ، وقد مضى في اوّل السّورة اشارة الى التّأويل فيها وعند قوله : من دخله كان آمنا في سورة آل عمران وكون كعبة الأحجار قياما للنّاس يظهر ممّا سبق منّا من انّها ظهور القلب ويجرى فيها كلّ ما يجرى في القلب على انّها يربح فيها تاجروها ويرزق ساكنوها ويؤمن ملتجئوها ويخلّف نفقات زائريها ويستجاب دعاء الدّاعين فيها لمعاشهم ومعادهم ، وبقاء أهل الأرض تماما ببقائها فيهم وزيارة بعضهم لها كما أشير اليه في الخبر ، وكون الشّهر الحرام قياما لما سبق من انّه مظهر الصّدر ومظهر صاحب الصّدر وكلّما يجرى فيه يجرى فيه على انّه شهر فراغة عن القتال وشهر اشتغال بمرمّة المعاش والمعاد ، وكون الهدى والقلائد قياما للنّاس لانّهما مظاهر لطالبي العلم وهم بركات لأهل الأرض على انّه ينتفع بايعوها بثمنها وأكلوها بلحومها واهبها (ذلِكَ) يعنى جعل الكعبة الّتى هي في بلد خال من الزّراعات وأسباب التّجارات من سائر منافع البرّ والبحر وخال نواحيه القريبة والبعيدة من الزّراعات والتّجارات سبب تعيّش النّاس وأرباحهم الدّنيويّة والمنافع الغير المترقّبة وهو مبتدء خبره قوله تعالى (لِتَعْلَمُوا) بذلك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) من الأسباب الغيبيّة الرّوحانيّة والأسباب السّماويّة العلويّة البعيدة (وَ) يعلم (ما فِي الْأَرْضِ) من الأسباب الطّبيعيّة الحسّيّة القريبة لانّكم بعد ما رأيتم ارتزاق أهل هذا البلد الخالي من كلّ ما ينتفع به مع انتفاعهم وأرباحهم الكثيرة ، علمتم انّه ليس الّا بتسبيبات الهيّة من دون استقلال الأسباب الطّبيعيّة ، بخلاف ما إذا كان الكعبة في البلاد المعمورة الكثيرة الزّراعات والتّجارات فانّه لا يعلم حينئذ انّ أرزاق أهلها بأسباب الهيّة أو أسباب طبيعيّة ، بل يعتقد انّها بأسباب طبيعيّة كما عليه أصحاب الحسّ والطّبيعيّون والدّهريّون ، إذا علمتم انّ أرزاق الخلق وأرباحهم ليست الّا بأسباب الهيّة علمتم انّه تعالى يعلم جميع الأسباب القريبة والبعيدة والرّوحانيّة والجسمانيّة والعلويّة والسّفليّة وانّه تعالى يقدر على توجيه الأسباب نحو هذا المسبّب ، ولم يقل لتعلموا انّ الله يقدر لانّ القدرة سبب قريب من المسبّب بخلاف العلم فكأنّها تستفاد من حصول المسبّب (وَ) لتعلموا (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)