وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) (١) وإيتاء الرشد ، ليس عبارة عن أصل العقل وسلامة المزاج. لأن ذلك حاصل في حق الأكثرين. فلا يجوز ذكره في معرض المنة عليه. وليس المراد أيضا : التوفيق والبيان. لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار. فوجب أن يكون المراد : ما حصل عنده من العلوم الكثيرة والأفعال الشريفة. وذلك يدل على أن أفعال العبد تحصل بخلق الله تعالى.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الرشد : النبوة؟ والدليل عليه : قوله تعالى : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) وذلك لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب عن كل ما لا يليق بها. ولذلك قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢).
سلمنا ذلك. فلم لا يجوز أن يقال : المراد من هذا الرشد ، هو ما آتاه الله من العقل والفهم الكامل؟ قوله : «العقل حاصل في حق الكل» قلنا : لفظ الرشد إنما يطلق فيمن انتفع بعقله واستعمله في تحصيل مصالحه. والجواب : إن الرشد هو الاهتداء إلى وجوه المصالح. قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً. فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٣) ولا يمكن أن يكون المراد والتعظيم ، ولا يجوز تخصصه بالنبوة. لأن لفظ الرشد ، مطلق ، فتقييده بالنبوة خلاف الظاهر ، فوجب حمله على كل ما كان حاصلا له من العلوم والأفعال الشريفة. وحينئذ يحصل المطلوب.
الحجة الثامنة عشر : قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى ، أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤) دل هذا النص : على أنه تعالى أوقع الإغراء بينهم ، حتى تقاتلوا. ولا شك أن تلك العداوة المقاتلة : أفعال قبيحة. فإن قالوا : قوله : (بَيْنَهُمُ) راجع إلى النصارى ، وإلى من تقدم ذكرهم من اليهود ، فالله تعالى
__________________
(١) سورة الأنبياء ، آية : ٥١.
(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٢٤.
(٣) سورة النساء ، آية : ٦.
(٤) سورة المائدة ، آية : ١٤.