من ذلك الغير أن لا يحدثها عند حصول إرادتنا ، وأن يحدثها عند حصول كراهتنا. وذلك يبطل ما بيناه في المقدمة الأولى من وجوب مطابقة أفعالنا لدواعينا نفيا وإثباتا.
الحجة الثانية : الأنبياء عليهمالسلام أجمعوا على أن الله أمر عباده ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها. ولو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما صح ذلك. فكيف يعقل أن يقول الله للعبد : افعل الإيمان والصلوات والعبادات ، ولا تفعل الكفر والمعاصي. مع أن الفاعل لهذه الأفعال ، والتارك لها ليس هو العبد؟ فإن أمر (١) الغير بالفعل يتضمن الإخبار عن كون ذلك المأمور قادرا على الفعل ، حتى إنه لو لم يكن المأمور قادرا عليه لمرض أو لسبب آخر ، ثم أمره غيره به. فإن العقلاء يتعجبون منه وينسبونه إلى الحماقة والجنون. ويقولون : إنك تعلم أنه لا يقدر على ذلك الفعل ، فكيف تأمره به؟ ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع المعجزات ، والكتب والشرائع. لأجل أن يبلغ ذلك الرسول تلك الشرائع إلى تلك الجمادات. ثم إنه تعالى يخلق الحياة والعقل لتلك الجمادات ، ويعاقبها ، لأجل أنهم لم يمتثلوا أمر الرسول ، حال كونها جمادات. وذلك مما يعلم فساده ببديهة العقل.
واعلم : أنا قد حكينا لهم استدلالهم بما تقرر من هذا الوجه ، على أن علم العبد بكونه موجدا لأفعال نفسه : علم ضروري. وذلك الوجه مغاير لهذا الوجه. لأنا في ذلك الوجه استدللنا بحصول العلم الضروري ، وبحسن المدح والذم على أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. والآن نستدل بحسن المدح والذم على كون العبد موجدا. فظهر الفرق.
ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : العبد وإن لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، إلا أنه مكتسب لها ويكفي (٢) هذا القدر في حسن المدح والذم؟ لأنا نقول : دخول فعل العبد في الوجود ، إما أن يكون من العبد ، وإما أن لا يكون منه
__________________
(١) من (م).
(٢) ففي [الأصل].