العلم بكونه نافعا أو ضارا أو خاليا عنهما. والعلم بكونه نافعا خاليا عن المعارض يوجب الميل إلى تحصيله. والعلم بكونه ضارا خاليا عن المعارض يوجب النفرة عنه. والميل الجازم يوجب الفعل والنفرة توجب الترك. فترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله ترتب ضروري ذاتي ، ولا عمل للشيطان فيه. لأن الواجب بذاته لا يصير واجبا بغيره. وثبت : أنه لا تأثير لعمل الشيطان في مرتبة من هذه المراتب. فكيف يستعاذ بالله منه؟ بقي أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن الشيطان ألقى كلاما في خاطر الإنسان وذكره صورة أمر ، بعد أن كان غافلا؟ لكنا نقول : صدور هذا التذكير عن الشيطان ، لا بد فيه من المراتب الأربعة المذكورة. فإن كان ذلك الإدراك إنما حصل في قلب ذلك الشيطان ، لأن شيطانا آخر ذكره ، لزم التسلسل. وإن انتهت هذه الحركات والبواعث والدواعي (١) إلى [أنها] لم تقع [إلا] بتخليق الله وبتكوينه فقد صار الكل من الله وحينئذ يرجع حاصل قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إلى ما صرح به رسول الله وهو قوله : «أعوذ بك منك» فوسوسة الشيطان هي المبدأ القريب ، وفعل الحق سبحانه هو المبدأ البعيد. لأنه سبحانه مسبب الأسباب. ومراتب الكتاب منتهية إليه ، ودرجات الحاجات متصاعدة إليه.
ونظيره : قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (٢) ثم قال : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٣) ثم قال : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٤) وما ذاك إلا لما ذكرنا : من أن من الأسباب ما قد تكون قريبة ، وقد تكون بعيدة. فكذا هاهنا.
الوجه السابع : إن المقصود من الاستعاذة. إما أن يكون طلب مصالح الدين ، أو طلب مصالح الدنيا. فإن كان الأول فالمطلوب : إما الأقدار ، أو التمكين ، أو تحصيل الإيمان. أما الأول فهو حاصل عند المعتزلة. فلم لا يجوز طلبه؟ وأما الثاني فذاك اعتراف بأن الإيمان والكفر من الله. وأما مصالح الدنيا
__________________
(١) والدواعي التي لم تقع بتخليق ... الخ [الأصل].
(٢) سورة الزمر ، آية : ٤٢.
(٣) سورة السجدة ، آية : ١١.
(٤) سورة الأنعام ، آية : ٦١.