الرابع : إنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة : بالإيمان ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله في كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنهم : أنهم لا يؤمنون قط. فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين. وذلك لا يوجد البتة ، ويمتنع وجوده. فثبت : أن هؤلاء الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون : يستحيل صدور الإيمان عنهم ، والذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون : يستحيل عدم الإيمان عنهم.
الخامس : إنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه. فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ. قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا. كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) (١).
فثبت : أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم وقوعه : قصد إلى تبديل كلام الله. وذلك منهي عنه [فلما أخبر الله عنهم : أنهم لا يؤمنون ، كان القصد إلى تكوينه قصدا إلى تبديل كلامه. وذلك منهي عنه (٢)] وكان ذلك حاصلا ، سواء حاول تكوين الإيمان أو لم يحاول. فثبت : أن الذي علم الله أنه لا يقع ، وأخبر أنه لا يقع ، كان وقوعه ممتنع الحصول.
فإن قيل : علم الله لا يقلب الجائز ممتنعا. ويدل عليه وجوه عقلية ووجوه سمعية.
أما الوجوه العقلية فعشرة :
الأول : لو كان كذلك ، لوجب أن لا يكون الله قادرا على شيء أصلا. علم في لأنه تعالى إن الشيء أنه سيقع ، كان واجب الوقوع. وما كان واجب الوقوع لم يكن له في وقوعه حاجة إلى المؤثر ، فكان ينبغي أن يستغني وقوعه عن قدرة الله تعالى. فإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة
__________________
(١) سورة الفتح ، آية : ١٥ [أنظر مجمع البيان ، ولاحظ رأي الجبائي].
(٢) سقط (ط).