أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل نفسه [وهو غير عالم بتفاصيل نفسه ، فوجب أن لا يكون موجدا لأفعال نفسه (١)] فيدل عليه القرآن والبرهان.
أما القرآن : فهو قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٢)؟ استكبر أن يكون الخالق للشيء ، غير عالم به.
وأما البرهان : فهو إن العبد يمكنه أن يأتى بالأزيد مما أتى به ، وبالأنقص عما أتى به ، وبفعل آخر مغاير لما أتى به. فلما كان قادرا على الكل ، كان رجحان بعض هذه الممكنات على البعض ، لا بد أن يكون لأجل أن القادر المختار : خصص ذلك النوع ، وذلك المقدار بالوقوع. دون المغاير ، ودون الأزيد والأنقص. لكن القصد إلى إيقاع الشيء بقدر خاض ، وكيفية خاص ، مشروط بالعلم بذلك القدر. لأن القصد إلى الشيء ، بدون الشعور بماهيته : محال. فثبت : أن خالق الشيء لا بد وأن يكون قاصدا إليه ، وثبت : أن القاصد إلى الشيء عالم بماهية ذلك الشيء ، الذي قصد إليه. وذلك يدل : على أن خالق الشيء ، لا بد وأن يكون عالما به.
وأما القدمة الثانية : وهي قولنا : إن العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه. فيدل عليه وجوه :
الأول : إن النائم والساهي قد يصدر عنهم كثير من الأفعال الاختيارية ، مع أنه لا شعور لهم بتفاصيل تلك الأفعال [لا (٣)] بكميتها ولا بكيفيتها.
الثاني : إن الإنسان إذا حرك بدنه وجثته ، فلا شك أن (٤) بدنه مؤلف
__________________
(١) من (ط).
(٢) سورة الملك ، آية : ١٤. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن : «قيل في معناه وجوه : أحدها : ألا يعلم ما في الصدور : من خلق الصدور؟ وثانيها : ألا يعلم سر العبد من خلقه؟. أي من خلق العبد ـ فعلى الوجهين يكون (مَنْ خَلَقَ) بمعنى الخالق. وثالثها : أن يكون (مَنْ خَلَقَ) بمعنى المخلوق. والمعنى : ألا يعلم الله مخلوقه؟».
(٣) من (ط ، ل).
(٤) أنه مؤلف (ط).