إلى نفس التكليف بخلاف محلّ المسألة ، إذ الحرج والضيق من دواعي المخالفة وأسبابها. ومحال على الحكيم أن يقع منه أمر يفضي إلى العصيان ، فإنّ طريقة العقلاء في تربية العبيد تأبى عن ذلك.
وأنت خبير بما فيه إذ القدر الواجب في الحكمة أن يكون التكليف المذكور مبنيّا على مصلحة كاملة يستصغر معها ما يلحقه من الحرج.
ألا ترى أنّ العقلاء ربما يتحمّلون الامور الصعبة ويرتكبون الأهوال العظيمة لرجاء الوصول إلى المنافع المقصودة والمصالح المطلوبة. والأطبّاء قد يعالجون المرضى بما فيه غاية الحرج والمشقّة ـ كتقطيع الأعضاء المتآكلة ـ فيمدح ذلك من فعلهم ، وإذا ترتّبت عليها الفوائد المقصودة انتشر بين العقلاء مدحهم والثناء عليهم ، وعدّ ذلك من أبلغ الحكمة وأحسن التدبّر ، واستحقّوا بذلك أحسن الثناء وأكمل الثواب. والمرضى متى وثقوا بقول الأطبّاء وظنّوا بذلك العافية وحسن العاقبة اشتدّ شوقهم إلى تحمل المعالجات الصعبة ، وكذلك العقلاء متى وثقوا بقول أطبّاء النفوس استلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون.
ويشهد بما ذكرنا ما يظهر من الأخبار والآثار من وقوع التكليف بالامور الشاقّة في الامم السالفة حتّى كانت امّة منهم إذا أصاب أحدهم قطرة بول يقرضون لحومهم بالمقاريض، وإنّما تفضّل الله تعالى على هذه الامّة المرحومة بوضع الشريعة الطاهرة على غاية اليسر والسهولة ورفع أقسام الحرج والمشقّة عنها ، كما قال تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(١) وكان ذلك بدعائه صلىاللهعليهوآله في ليلة المعراج بقوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا)(٢) فقد جاء في تفسيره ما يدلّ على ذلك بأبلغ الوجوه ، رواه العياشي (٣) وعلي بن ابراهيم (٤) في تفسيرهما والطبرسي في الاحتجاج(٥).
__________________
(١) سورة الاعراف : ١٥٧.
(٢) سورة البقرة : ٢٨٦.
(٣) تفسير العياشي : ج ١ ص ١٥٩ ح ٥٣١.
(٤) تفسير علي بن ابراهيم : ج ١ ص ٩٥.
(٥) الاحتجاج : ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.