وأمّا إذا كان البعض من تلك الظنون مقطوعا بحجّيته على فرض حجّية الظنّ في الجملة دون البعض الآخر تعيّن ذلك البعض للحكم بالحجّية دون الباقي ، فإنّه هو القدر اللازم من المقدّمات المذكورة دون ما عداه ، إذ حكم العقل بحجّية الكلّ على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجّح بينها بحسب الواقع حتّى يجب الحكم بحجّية الجميع كذلك بل إنّما هو من جهة عدم علمه بالمرجّح ، فلا يصحّ له تعيين البعض للحجّية دون البعض من غير ظهور مرجّح عنده ، فيتعيّن عليه الحكم بحجّية الكلّ بعد القطع بعدم المناص عن الرجوع إليه في الجملة ، فعموم الحكم المذكور إنّما يجيء من جهة جهل العقل بالواقع.
وأنت خبير بأنّ قضيّة الجهل المذكور هي ترجيح الأخصّ في المقام عند دوران الأمر حينئذ بينه وبين الأعمّ ، لثبوت حجّيته على التقديرين ، فبعد ثبوت حجّية الظنّ في الجملة لا كلام في حجّية ظنون خاصّة لدوران الأمر حينئذ بين الأخذ بها وبغيرها ، فكيف يسوغ حينئذ للعقل تجويز الرجوع إلى غير الظنون الخاصّة مع كون تلك الظنون كافية في استنباط الأحكام.
فان قلت : إنّ القائل بحجّية كلّ الظنون إنّما يقول بحجّية الظنون الخاصّة من حيث إنّها ظنّ لا لأجل خصوصيّتها ، وتلك الحيثيّة جارية في جميع الظنون ، والقائل بحجّية خصوص تلك الظنون الخاصّة من حيث إنّها ظنّ لم يقم على ذلك حجّة قاطعة ، فلم يثبت إذن خصوصيّة في تلك الظنون حتّى يقال بترجيحها على غيرها.
قلت : ليس المقصود في المقام الاستناد في مقام الترجيح إلى الدليل الدالّ على حجّية الظنون الخاصّة حتّى يقال بعدم ثبوت مرجّح قطعي قاض بحجّيتها بخصوصها وعدم اتّفاق الأقوال عليها كذلك ، بل المراد أنّه لمّا دار الأمر في نظر العقل بعد العلم بحجّية الظنّ على جهة الإهمال بمقتضى المقدّمات الثلاث المذكورة ، حيث إنّه لا يحتمل هناك وجها ثالثا ، وكان حجّية الظنون الخاصّة ثابتة على كلّ من الوجهين المذكورين ، فحكم العقل بحجّيتها ليس من أجل قيام الحجّة