ورابعا : أنّه قد ينسدّ سبيل الاحتياط فلا يمكن الاحتياط في العمل ولا التوقّف في الفتوى ، كما لو دار المال بين شخصين سيّما إذا كانا يتيمين ، إذ لا يقتضي الاحتياط إعطاءه أحدهما دون الآخر ، ولا دليل قطعي أيضا على جواز السكوت وترك التعرّض للحال والإفتاء بأحد الوجهين بعد استفراغ الوسع وحصول الظنّ ، فلعلّ الله سبحانه يؤاخذه على عدم الاعتناء وترك التعرّض للفتوى لعدم قيام دليل قطعي على حرمة العمل بالظنّ ، بل ليس ما دلّ على حرمة العمل به من الأدلّة الظنّية معادلا للضرر المظنون في إتلاف مال اليتيم وتعطيل امور المسلمين وإلزام العسر والحرج في الدين ، فمع عدم قيام دليل قطعي من الجانبين ليس في حكم العقل إلّا ملاحظة جانب الرجحان والمرجوحيّة من الطرفين والأخذ بما هو الأقوى منهما في نظر العقل والأبعد عن ترتّب الضرر حسب ما مرّت الإشارة إليه في الدليل المتقدّم.
فالعاقل البصير لابدّ أنّ يلاحظ مضارّ طرفي الفعل والترك في كلّ مقام ويأخذ بما هو الأقوى بعد ملاحظة الجهتين ، ولا يقتصر على ملاحظة أحد الجانبين ، فإنّ مجرّد كون الاحتياط حسنا في نفسه لا ينفع في مقابلة حفظ النظام ودفع المنكر وإقامة المعروف وإغاثة الملهوف ورفع العسر والحرج وحفظ النفوس والأموال عن التلف وعدم تعطيل الأحكام إلى غير ذلك من الفوائد المترتّبة على الفتوى ، فلا وجه لترجيح جانب الاحتياط بعد انسداد باب العلم في المسألة وترك العمل بالظنّ الحاصل من الطرق الظنّية ، بل لابدّ في كلّ مقام من ملاحظة الترجيح والأخذ بالراجح ، غاية الأمر أن يكون في الاحتياط إحدى الجهات المحسّنة ، وهذا هو السرّ في القول بالأخذ بالظنّ بعد انسداد سبيل العلم.
قلت : ويرد عليه ، أمّا على ما ذكره أوّلا : فبأنّه خارج عن قانون المناظرة ، لكونه منعا للمنع ، فإنّ المورد المذكور بيّن توقّف ما ذكره المستدلّ على ثبوت وجوب الإفتاء والعمل ، إذ مع البناء على عدمه لا قاضي بلزوم الأخذ بالظنّ ، لإمكان البناء على التوقّف والاحتياط حسب ما ذهب إليه الأخباريّون في موارد