ـ من ـ هنا للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا ، ثم إذا علم أن سبب النزول هم اليهود ، علم أن ـ من ـ موصولة ، وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود ، قال : لما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٢] ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ، ظنوا أن الظلم هو المعصية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه ليس بذلك ألا تسمع قول لقمان لابنه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [سورة لقمان ، الآية : ١٣] (١).
هذا وإن القرآن كتاب جاء لهداية الأمم ، والتشريع لها ، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة إليه ، وقد يكون نازلا عند الحاجة ، وقد يكون مخاطبا به قوما على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما ، وقد يكون مخاطبا له جميع من يصلح لخطابه. وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية ؛ والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها ، وليمكن تواتر الدين ، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط ، وإلا فإن الله سبحانه قادر أن يجعل القرآن أضعافا لما أنزل ، وأن يطيل عمر النبي صلىاللهعليهوسلم للتشريع ، أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى ، ولذلك قال الله عزوجل : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية ؛ لأن ذلك يبطل مراد الله تعالى ، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ، ولا إطلاق ما قصد منه التقييد ؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد ، أو إلى إبطاله من أصله.
وثمة فائدة عظيمة لأسباب النزول ، وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث ، دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال ، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم ، فنزوله على حوادث يقطع دعوى الذين ادعوا أنّه أساطير الأولين.
ويضيف الإمام الشاطبي في إيضاح مزايا معرفة أسباب التنزيل فيقول (٢) :
«معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن. والدليل على ذلك أمران :
__________________
(١) صحيح البخاري برقم ٦٩١٨ ، وصحيح مسلم برقم ١٢٤.
(٢) الإمام الشاطبي ، كتابه : الموافقات في أصول الشريعة ، ج ٣ / ٣٤٧ ـ ٣٥٠.