الثالث : قسم هو حوادث تكثر أمثالها ولا تختص بشخص واحد ، فتنزل الآية لإعلانها وبيان أحكامها ، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا ، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة ، فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري ، أنّ عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من حلف على يمين صبر (١) يقتطع بها مال امرئ لقي الله وهو عليه غضبان» ، فأنزل الله تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية .. [سورة آل عمران ، الآية : ٧٧] ، فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا : كذا وكذا ، قال : فيّ أنزلت ؛ كانت لي بئر في أرض ابن عم لي ... الخ. فابن مسعود جعل الآية عامة ؛ لأنه جعلها تصديقا للحديث العام ، والأشعث بن قيس ظنها خاصة به ، إذ قال : فيّ أنزلت ، بصيغة الحصر. وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ، مع أن القاعدة عند الأصوليين في ذلك ؛ أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم لا فائدة في ذكره على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة ؛ لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.
الرابع : قسم هو حوادث حدثت ، وفي القرآن آيات تناسب معانيها ، سابقة أو لاحقة ، فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات ، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ، ويدل هذا النوع على وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول ، كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان للسيوطي ، فارجع إليه ففيه أمثلة كثيرة.
وقد ذكر السيوطي في الإتقان عن الزركشي : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا ؛ فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها.
الخامس : قسم يبيّن مجملات ويدفع متشابهات ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] ، فإذا ظن أحد أن
__________________
(١) يمين صبر : أي ألزم بها وحبس عليها ، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم.