ثم ليس المفسر بغنى عن معرفة أسباب النزول ، الذي هو فرع من فروع علم التفسير ، والذي فيه بيان مجمل وإيضاح خفي وموجز ، ومنه ما يكون وحده تفسيرا ، ففي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه ، أنه قال : «قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٨] ، فما على الرجل شيء ألّا يطوف بهما؟ قالت عائشة : كلا لو كان كما تقول لكانت : «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما» ؛ إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية.
وإن أسباب النزول التي صحت أسانيدها وجدت خمسة أقسام (١) :
الأول : قسم هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منهما على علمه ؛ فلا بدّ للمفسر من البحث عنه ، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى : («قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [سورة المجادلة ، الآية : ١] ، ومنه ما اقتضاه حال خاص نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٤].
الثاني : قسم هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام ، وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ، ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها ؛ مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت فيه آية اللعان (٢) ، ومثل حديث كعب بن عجرة التي نزلت فيه آية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) الآية .. [سورة البقرة ، الآية : ١٩٦] ، فقد قال كعب : هي لي خاصة ولكم عامة. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة في فهم معنى الآية ، وتمثيلا لحكمها ، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة ، إذ قد اتفق العلماء ، أو كادوا ؛ على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص ، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
__________________
(١) مقدّمة التحرير والتّنوير ، لابن عاشور ، ص ٤١ ـ ٤٥ ، بتصرّف.
(٢) والأصح أنّها نزلت في هلال بن أميّة. انظر سبب نزولها في هذا الكتاب.