ب ـ القرآن والاستقامة في البيان
قد علم كل عاقل جرب الامور ، وعرف مجاريها ان الذي يبني امره على الكذب والافتراء في تشريعه واخباره ، لابد من أن يقع منه التناقض والاختلاف ، ولا سيما أذا تعرض لكثير من الامور المهمة في التشريع والاجتماع والعقائد ، والنظم الاخلاقية المبتنية على أدق القواعد وأحكم الاسس ، ولا سيما اذا طالت على ذلك المفترى أيام ، ومرت عليه أعوام نعم لا بد من أن يقع في التناقض والتهافت من حيث يريد أولا يريد ، لأن ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص اذا خلا من التسديد. وقد قيل في المثل المعروف : (لا حافظة لكذوب.)
وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون ، وتوسع فيها احسن التوسع فبحث في الالهيات ومباحث النبوات ، ووضع الاصول في تعاليم الاحكام والسياسات المدنية ، والنظم الاجتماعية ، وقواعد الاخلاق. وتعرض لأمور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ ، وقوانين السلم والحرب ، ووصف الموجودات السماوية والأرضية من ملك وكواكب ورياح ، وبحار ونبات وحيوان وانسان ، وتعرض لأنواع الأمثال ، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها فلم تجد فيه أية مناقضة ولا ادنى اختلاف ، ولم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل والعقلاء. وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين او اكثر ، فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع. واليك قصة موسى عليهالسلام : فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة ، وفي كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى.
واذا عرفت ان الآيات نزلت نجوما متفرقه على الحوادث ، علمت أن القرآن بوحي من أمر الله ، لأن هذا التفرق يقضي بطبعه عدم الملائكة والتناسب حين يجتمع ، ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين ، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه ، فلما اجتمع حصل له اعجاز آخر.