ومن الكاتبين من خصوا هذا النوع السابق باسم الجدل فى القرآن. ولقد أجاد الإمام السيوطى فى كلامه عن هذا النوع من علوم القرآن فذكر ما ملخصه : أن نجم الدين الطوفي أفرد الجدل فى القرآن بالتصنيف ، ونقل عن العلماء : أن القرآن اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة ، ولكن أوردها على عادة العرب مبتعدا عن دقائق طرق المتكلمين لأمرين هما : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٧) ، وأن مخاطبته فى محجة خلقه جاءت فى أجلى صورة ليفهمها العامة لا القليلون ، فتلزم الجميع الحجة. ونقل عن ابن أبى الأصبع أن الجاحظ زعم أن المذهب الكلامى لا يوجد منه شىء فى القرآن. ورد عليه بأنه مشحون به.
ثم عرف الجدل بأنه : (احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له فيه على طريقة أرباب الكلام). ومنه نوع منطقى تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة ، فالإسلاميون ذكروا أن أول سورة الحج إلى قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٨) خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات : قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) (٩) ؛ لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظما لها ، وذلك مقطوع بصحته ، لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته ، منقول إلينا بالتواتر ، فهو حق ، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق ، فالله هو الحق. وأخبر تعالى أنه يحيى الموتى ؛ لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر ، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ، ليشاهدوا تلك الأهوال التى يعملها الله من أجلهم ؛ وقد ثبت أنه قادر على كل شىء ، ومن الأشياء إحياء الموتى ، فهو يحيى الموتى ، وأخبر أنه على كل شىء قدير ، لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ، ومن يجادل فيه بغير علم يذقه عذاب السعير ، ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شىء قدير ، فهو على كل شىء قدير ، وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها ، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (١٠) ، وضرب لذلك مثلا بالأرض الهامدة التى ينزل عليها الماء ، فتهتز وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج ، ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت ، ثم يعيده بالبعث ، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ، ثم أماتها بالجدب ، ثم أحياها بالخصب ، وصدق خبره فى ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على المتوقع الغائب ؛ حتى انقلب الخبر عيانا صدق خبره فى الإتيان بالساعة ، ولا يأتى بالساعة إلا من