تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التى عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على عرضنا من هذا الكتاب ، فلا سبيل إلى الوقوف على تصاريف الخطاب ، فافزع إلى التقليد ، وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (غافر : ٥) ثم ذكر عقبها العذاب فى الآخرة ، وأتلاها تلو العذاب فى الدنيا على الإحكام الذى رأيت» (٣٢).
فالباقلانى هنا يعلل ويحلل ويسلك سلك أهل مذهبه الكلامى فى الأخذ والرد ، وكنا نود أن يسلك هذا المسلك فى كل ما يمثل به من الآيات ، ولكن نشاطه يفتر حين يمتد به القول دون راحة ذهنية ـ كما أعلّل ذلك ـ فلا تكاد تخرج منه بطائل ، وأمثل لذلك بما استشهد به من قول الله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٣) حيث قال :
انظر إلى هذه الكلمات الأربع التى ألف بينها واحتج بها على ظهور قدرته ، ونفاذ أمره ، أليست كل كلمة منها فى نفسها غرة ، وبمفردها درة ، وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر ، ونفاذ القهر ، ويتجلى فى بهجة القدرة ، ويتحلى بخالصة العزة ، ويجمع السلامة إلى الرصانة ، والسلاقة إلى المتانة ، والرونق الصافى ، والبهاء الضافى» (٣٤) فهذا القول وشبيهه مما تركته للاختصار يمكن أن يقال تعليقا لآيات كثيرة تماثلها دون فارق ، والمفسر المحلل لا يلجأ للعبارات العامة فى نص يحلله ، لقد كان عليه أن يبين موقع الحسن فى كل كلمة تنفرد بنفسها بدل أن يطلق القول إطلاقا ، وإذا اتسع له الأمد لتفضيل كلمة (ليأخذوه) فى النص السابق ، فلما ذا لم يقف وقفاته البارعة عند كلمات «فالق» أو «سكنا» أو «حسبانا» ، وإنصافا للرجل أذكر إصابته الدقيقة فى تحليل بعض السور القرآنية نسبيا تحليلا متكاملا كما صنع بسورتى غافر والنمل ، وأجزاء طويلة من سورة فصلت ، إذ أخذ يعرض آيات السورة الواحدة متنقلا بين معانيها ، ومحاولا الربط بين أجزائها وهو اتجاه شامل يتعدى الكلمة فى الآية والآية فى الآيات إلى بناء السورة جميعها ، حيث تنهض عملا أدبيا مستقلا فى ذاته.
وقد كان الباقلانى موفقا حين ذكر طائفة من حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخطبه ورسائله ، ليثبت الفارق الواضح بين قوله عليهالسلام ، وما جاء فى كتاب الله من الإعجاز ، وهو اتجاه سديد ، لأنه يدحض حجة من نسبوا القرآن إلى رسول الله من الملاحدة مرددين قول المشركين من قبل : إنه افتراه ، ولو نشاء لقلنا مثل هذا. فلو كان القرآن مفترى من الرسول لتشابه الحديث مع الكتاب فى