الثالث : ما لم يصرح فيه بنزول الآيات فور حدوث السبب أو بتراخى هذا النزول ، فهو يحتمل الأمرين معا.
ومثال ذلك : ما ورد فى شأن نزول قول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) الفتح / ٢٤.
فقد أخرج مسلم (٨٥) عن أنس بن مالك رضي الله عنه : «أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم من جبل التنعيم متسلحين ، يريدون غرّة النبى صلىاللهعليهوسلم ، فأخذهم سلما فاستحياهم ، فأنزل الله عزوجل :
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)».
فليس فى لفظ الحديث ما يدل على فورية النزول أو تراخيه ، ولكنه على كل حال تم بعد وقوع السبب ، هذا هو الشأن فيما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب : أن يتقدم السبب على ما ينزل فيه من الآيات.
ولكن الزركشى رحمهالله تعالى ذكر أنه :
قد يتقدم نزول الآيات على ما نزلت فى شأنه ، وذكر أمثلة لذلك فقال : «واعلم أنه قد يكون النزول سابقا على الحكم» وهذا كقوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) الأعلى / ١٤.
فإنه يستدل بها على زكاة الفطر ، روى البيهقى بسنده : أنها فى زكاة رمضان ، ثم أسند مرفوعا نحوه ، وقال بعضهم : لا أدرى ما وجه هذا التأويل؟ لأن السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة.
(وأجاب البغوى فى تفسيره : بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) سورة البلد / ١ ، ٢. فالسورة مكية وظهر أثر الحل يوم فتح مكة حتى قال عليهالسلام :
«أحلت لى ساعة من نهار» (٨٦).
وكذلك نزل بمكة : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) القمر / ٤٥. قال عمر بن الخطاب : «كنت لا أدرى أى الجمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول :
سيهزم الجمع ويولون الدبر» أ. ه. كلام الزركشى رحمهالله تعالى (٨٧).
وما ساقه الزركشى هنا ـ فيما عدا الآية الأولى التى قالوا إنها فى شأن زكاة الفطر ـ يمكن حمله على أنه من باب الإخبار بالمغيبات التى وقعت كما أخبر القرآن عنها تماما ، وذلك من أوجه إعجاز القرآن الكريم.