ما روى عن ابن عباس ، أنه قال : ما كنت أدرى ما فاطر السماوات والأرض ، حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أى : أنا ابتدأت حفرها. وذكر أبو العباس أن ابن الأعرابى يقول : أنا أول من فطر هذا ، أى : ابتدأه.
٣ ـ وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر : فطرة الله هى : الخلقة التى خلق عليها المولود فى المعرفة بربه (٧٥) ، أى : أن كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ، يعنى : خلقة مخالفة لخلقة البهائم ، التى لا تصل بخلقتها إلى معرفته ، واستدلوا لذلك بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (فاطر : ١). يعنى خالقهن.
قال أبو عمر بن عبد البر : هذا الأخير أصح ما قيل فى معنى «فطرة الله» التى يولد الناس عليها ، ودلل على ذلك ، واحتج له.
قال القرطبى : وإلى ما اختاره أبو عمر واحتج له ، ذهب غير واحد من المحققين ، منهم ابن عطية فى «تفسيره» فى معنى «الفطرة» ، وشيخنا أبو العباس.
قال ابن عطية : والذى يعتمد عليه فى تفسير هذه اللفظة : أنها الخلقة والهيئة التى فى نفس الطفل ، التى هى مهيأة ومعدة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، فكأنه تعالى قال : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) الذى هو الحنيف ، وهو فطرة الله ، الذى على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعترضهم العوارض ، ومنه قول النبى صلىاللهعليهوسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه أو يمجّسانه ...» الحديث. فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التى هى كثيرة ، حيث إن الله تعالى خلق قلوب بنى آدم مؤهلة لقبول الحق ، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فما دامت باقية على ذلك القبول ، وتلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام ، وهو الدين الحق (٧٥).
هذا وقد أجاب أصحاب هذا القول ... عن القول الأول : بأنه يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة هى الإسلام ، ذلك أن الإسلام والإيمان. قول باللسان ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالجوارح ، وهذا معدوم من الطفل ، لا يجهل ذلك ذو عقل.
كما أجابوا عن القول الثانى ، الذى هو «البداءة» : بانكارهم أن يكون المولود يفطر على كفر أو إيمان ، أو معرفة أو إنكار ، حيث قالوا : إن المولود يولد على السلامة فى الأغلب ، خلقة ، وطبعا ، وبنية ، ليس معها : إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة ، ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا.