ولمّا شاهد صلوات الله عليه شهداء قد سبقوا ، وبفناء الجنّة أحدقوا ، قد حمدوا مشاربهم ، وبلغوا مناهم ، وشكروا مسعاهم ، قد أزلفهم مولاهم ، وأتحفهم وحيّاهم ، وقرّبهم وأدناهم ، واطمأنّت بهم الدار ، وطاب لهم القرار ، وزالت المتاعب ، وأمنت المصائب ، وجمع شملهم بحبيب قلوبهم ، واُنيلوا من النعيم المقيم زيادة على مطلوبهم ، وفتحت لهم أبواب الجنّة بأمر ربّ العالمين ، وقيل لهم : ( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنينَ ) (١). فاستوطنوا من غرفها أعلاها ، واستشعروا من حللها أضفاها ، وسقوا من كؤوسها أصفاها ، وعانقوا من حورها أسناها ، تجري من تحت أبنيتهم الأنهار ، والملائكة يدخلون عليهم من كلَّ باب ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٢).
ولمّا أحلّهم سبحانه دار المقامة ، وأنزلهم منازل الكرامة ، وأزارهم ملائكته المقرّبين ، ورافق بهم أنبياءه المرسلين ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أجْرُ الْعَامِلِينَ ) (٣) فأقاَموا في نعمة لا حصر لعدّها ، وداموا في سعادة لا انتهاء لحدّها ، ( يَطُوفُ عََيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدوُنَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُوَنَ وحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤).
فيا حسرتي إذ لم أكن من السابقين في حلبتهم ، أو المصلّين في سبقتهم ، المحسوبين في زمرتهم ، المعدودين من جملتهم ، أتمتّع برؤية أوليائي كما
__________________
١ ـ سورة الحجر : ٤٦.
٢ ـ سورة الرعد : ٢٤.
٣ ـ سورة الزمر : ٧٤.
٤ ـ سورة الواقعة : ١٧ ـ ٢٤.