وأسالت لهم جداول نعمتها (١) ، والتفت الملّة بهم في عوائد بركتها ، فأصبحوا في نعيمها (٢) عرقين ، وفي (٣) خضرة عيشها فكهين ، قد تراحت لهم الاُمور (٤) ، في ظلّ سلطان قاهر ، وآوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب ، وتعطف الامور عليهم في ذُرى ملك ثابت ، فهم حكام على العالمين ، وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام فيمن (٥) كان يمضيها فيهم! لا تغمز لهم قناة ، ولا تقرع لهم صفاة (٦) (٧) إنتهى كلامه.
قلت : فما كان جزاء من أسدى هذه المنّة إليهم ، وأسدل النعمة عليهم ، إلا أن تركوه ميّتاً لم يكفّن ، ومحبوراً لم يدفن ، وأظهروا ما كان من حقدهم مخفياً ، ونشروا من غيّهم ما كان منطوياً ، وأنكروا وصيته ، وأهانوا ذرّيّته ، وجحدوا نصّه وعهده ، وأخلفوا وعده وعقده ، وجعلوا زمام امورهم بأيدي أدناهم نسباً وألأمهم حسباً ، وأقلهم علماً ، وأسفههم حلماً ، لا في السراة القصوى من قصّتهم ، ولا في المرتبة العليا من لومهم ، ثمّ لم يقنعوا بما فعلوا ، فلم يعترفوا إذ جهلوا ، ولم يتحولوا إذ غيروا وبدلوا ، ولم يستجيبوا إذ ضلّوا ، وضلّوا حتّى دبروا في قطع دابرهم ، وإخفاء مآثرهم ، يجرعونهم الغصص ، ويوردونهم الربق (٨) ، ويأكلون
__________________
١ ـ في النهج : نعيمها.
٢ ـ في النهج : نعمتها.
٣ ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : وعن.
٤ ـ في النهج : قد تربعت الامور بهم. وتربّعت : أقامت.
٥ ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : على من.
٦ ـ القناة : الرمح. وغمزها : جسّها باليد لينظر هل هي محتاجة للتقويم والتعديل فيفعل بها ذلك.
والصفاة : الحجر الصلد. وقرعها : صدمها لتكسر.
٧ ـ نهج البلاغة : ٢٩٧ ضمن خطبة رقم ١٩٢.
٨ ـ الربق : الكرب.