الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وآله الطيّبين الطاهرين.. وبعد :
إنّ من أكثر الاُمور وضوحاً في حياة الشعوب
والأمم ، اتفاقها علىٰ جملة من المبادئ الإنسانية لا سيما ذات الصلة المباشرة
بحقوق الناس ، والحفاظ علىٰ توازن المجتمع إزاء التحولات الحتمية في مستقبل تاريخه
، بصيرورة تلك المبادئ إلىٰ سلوك معتاد بعد تحقق الاستجابة الطوعية لها ، والتحرك
علىٰ ضوئها ، حيث لم تترك معلقة في الفضاء ، وإنما اُنْزِلت إلى أرض الواقع ،
وعاشتها البشرية كحقيقة ثابتة جيلاً بعد جيل ، حيث تناغت اصولها مع الفطرة ، وانسجمت
أهدافها مع رغبة الإنسان وطموحه وتطلعاته.
ولعل من أبرز تلك المبادئ التي تحولت إلى
سلوك دائم في حياة الناس جميعاً هو مبدأ الوصيّة الذي كُتب له الخلود ، وهكذا كل مبدء
لا تعرف قيمته ما لم يكن سلوكاً ، فارتكاز الوصية في ضمير الإنسان وشعوره ، وانسجامها
مع رغبة الإنسان في أبقاء نوع علاقة له مع الحياة القائمة بعد مغادرتها ، هي رغبة فطرية
يتساوىٰ فيها السيد والمسود ؛ كل ذلك أدّى إلى انعكاس شعور الإنسان بالحاجة إلى
الوصية علىٰ تنظيم شؤون حياته واستباق الموت باختيار الرجل الكفوء الذي يمكن
أن تُسند إليه المهام التي لم يسمح عمر الموصي بمباشرتها بنفسه.
ولدور الوصية العظيم في حفظ الحقوق وتوازن
المجتمع ، بادرت الشريعة الغراء إلىٰ تنظيمها تنظيماً واعياً ودقيقاً ، وبهذا
لم تعد الوصية حاجة من حاجات الإنسان الضرورية فحسب ، بل مطلباً إسلامياً أكيداً ،
لابدّ من توخي الدقة فيه ، واتخاذ السبل اللازمة لانجاره.
وتبرز حيوية الوصية بإكسابها الموصي نفسه
حياة معنوية بعد وفاته ، بابقاء رأيه سارياً بحيث يمكن استنطاقه كلّما دعت الحاجة إليه
، ويُعرف ثقلها من متعلقها ، وهو عادة ما يكون في تناسب طردي مع شخص الموصي وموقعه
، فالفلاح مثلاً يوصي في أرضه ، والتاجر في تجارته ، والرجل الثري في أمواله ، والملك
في مملكته ، بل كل راع في رعيته ، وهكذا تخرج الوصية عن الأفق الضيق الذي تعيشه أغلب
الوصايا كلما كان موقع الموصي خطيراً ومن خلال هذا المقياس يمكن تقريب صورة الوصي أيضاً
؛ لأن عهد المصلح العظيم لآخر في تنفيذ مشاريعه الكبرىٰ بعد وفاته كافٍ في تصور
حجم الثقة المتبادلة بينهما ، والجزم بأنها لم تكن وليدة في ساعات احتضار المصلح ؛
إذ لابدّ