وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا ، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد الله يبسطه تارة ويقبضه أخرى ، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما ، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه فى ضيق شديد ، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح
(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة ، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى الله واستعان به لكشف ذلك الضر عنه ـ وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال : إنما أوتيت هذا لعلمى بوجوه المكاسب وجدى واجتهادي أو لذهابى إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.
وهذا منه تناقض عجيب ، ففى الحال الأولى يستغيث بربه ، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها ، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله ، أيشكر أم يكفر ، أيطيع أم يعصى؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من الله وامتحان لهم ، ومن ثم يقولون ما يقولون ، ويدّعون من الدعاوى ما لا يفقهون.
ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال :
(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم ، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.