وهكذا كانت معجزة موسى من نوع السحر الذي برع المصريون فيه ، ومن نفس المنطق ، وعلى نفس الدرب ، كانت معجزة القرآن الكريم الأولى في بيانه الذي خرست معه الألسنة فما تنطق ، وفي فصاحته التي شدهت معها الأفئدة فما تعي ، وسوف يظل هذا البيان وتلك الفصاحة حجة على العالمين ، تلك كانت معجزة القرآن الأولى يوم طالع الرسول العرب ، وهم ما هم بيانا وفصاحة (١) ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر أسواق العرب التي كانوا يعرضون فيها بضاعة الكلام وصناعة الشعر والخطابة ، بخاف على متأدب.
فما هو إلا أن جاء القرآن ، وإذا الأسواق قد انفضت ، إلا منه ، وإذا الأندية صفرت ، إلا عنه ، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى ، ذلك على أنه لم يسد عليهم باب المعارضة ، بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفراد أو جماعات ، بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى ، متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف (٢) ، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله (٣) ، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله (٤) ، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله (٥) ، ثم بسورة واحدة من مثله (٦) ، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا ، ثم رماهم ـ والعلم كله ـ
__________________
(١) إبراهيم الأبياري : تأريخ القرآن ، القاهرة ١٩٦٥ ص ٤٤ ـ ٤٥.
(٢) محمد عبد الله دراز : النبأ العظيم ، نظرات جديدة في القرآن ، الكويت ١٩٧٠ ص ٨٤.
(٣) سورة الإسراء : آية ٨٨.
(٤) سورة هود : آية ١٣.
(٥) سورة يونس : آية ٣٨.
(٦) سورة البقرة : آية ٢٣.