وهو في جملة الناس ، وكان قد أتي ببساط ، فبسط له ، وطرح عليه طراحة فجلس عليها ، فإذا بأربعة مشايخ قد حضروا ، فجلس اثنان عن يمين الحاجب عطاء ، واثنان عن شماله بعد أن سلّموا عليه وأقبلوا بوجوههم إليه ، وكأنه قد أتي بكرسي شبيه بكرسي الوعظ ، فأخذوا بيد الحاجب ورفعوه عليه ، فلما استقر على الكرسي حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلىاللهعليهوسلم ، فالتأم في الميدان (١) خلق لا يحصى ، فقال : معاشر الناس ، الدنيا فانية والآخرة باقية. فدخلت ريح تحت الكرسي فرفعته ، ثم تكلم بكلام لم أحفظه ، والناس يضجون بالدعاء ويكثرون البكاء ، ثم نزل الكرسي وأنزل عنه الحاجب (٢) ، فقعد دون المرتبة ، وجلس الشيوخ عليها ، فسألت بعض الشيوخ عن أحدهم فقال : هذا هو المشرع ، وأومأ بيده إلى رجل حسن الصّورة ، ثم أخذ بيدي [فقال :] مدّ يدك فصافحه ، فصافحته ثم قلت : يا شيخ ـ للذي سألته ـ من هؤلاء القوم؟ فقال : أبو بكر وعمر ، وعثمان ، وهذا محمد بن إدريس الشافعي. فما استتم كلامه حتى حضر شيخ عليه سكينة ووقار ، فنهضوا له ورفعوا قدره فسألت الشيخ عنه فقال : هذا علي بن أبي طالب. فأومأ المشرع إلى الحاجب عطاء ، فتقدم إليه [ثم](٣) تحدث معه فالتفت إليّ وقال : يا فلان ، ألم تقل : إن هؤلاء القوم كانوا مختلفين بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قلت : بلى ، فأومأ إليهم فقال : ألم يكن كذلك فقالوا بأجمعهم : لا. ثم أومئوا إلي ، وقالوا : عليك بمذهب الشيخ ، عليك بمذهب الشيخ ، ولازم الماء والمحراب والسلام. ثم انتبهت وكأنني مرعوب ، ثم شكرت الله بعد ذلك شكرا زائدا ولزمت ما قال ، والحمد لله على ذلك حمدا كثيرا.
توفي أبو محمد في المحرّم سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
__________________
(١) بالأصل «اليدان» خطأ ، والمثبت عن مختصر ابن منظور ٦ / ٣٢٤.
(٢) سقطت من الأصل واستدركت على هامشه وبجانبها كلمة صح.
(٣) الزيادة عن المختصر.