أبا إسحاق الزجّاج ذكر أن هذه آية قد غلِط فيها قوم غَلَطاً عظيماً لجهلهم باللغة ، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) من المُتْعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام ؛ وإنما معنى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) : فما نكحتموهُ منهن على الشريطة التي جَرَت في الآية أنه الإحصان ، (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ) أي عاقدين التزويج ، أي (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) على عقد التزويج الذي جرى ذكره (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أي مُهُورهنّ. فإن استمتع بالدخول بها آتى المهر تاماً ، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر. قال : والمتاع في اللغة : كل ما انتُفِع به ، فهو متاع. قال : وقوله : (وَمَتِّعُوهُنَ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] ليس بمعنى : زوّدوهن المُتَع ؛ إنما معناه : أعطوهن ما يستمتعن به. وكذلك قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البَقَرة : ٢٤١]. قال : ومن زعم أن قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) [النِّساء : ٢٤] المتعة التي هي الشرط في التمتّع الذي يفعله الرافضة فقد أخطأ خطأ عظيماً ؛ لأن الآية واضحة بيّنة.
قلت : فإن احتجّ محتجّ من الروافض بما يروى عن ابن عبَّاس أنه كان يراها حلالاً ، وأنه كان يقرؤها : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمَّى) فالثابت عندنا أن ابن عباس كان يراها حلالاً ؛ ثم لمَّا وقف على نهي النبي صلىاللهعليهوسلم عنها رجع عن إحلالها ؛ حدَّثناه محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا الحسن ابن أبي الربيع ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جُرَيج عن عطاء ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما كانت المُتْعة إلَّا رحمة رحم الله بها أمَّة محمد ، فلو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنى أحد إلّا شَفى ، والله لكأني أسمع قوله : «إلا شَفًى» عطاء القائل. قال عطاء : فهي التي في سورة النساء : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) إلى كذا وكذا من الأجَل ، على كذا وكذا شيئاً مسمَّى. فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعَمْ ، وإن تفرقا فنعَمْ ، وليس بنكاح.
قلت : وهذا حديث صحيح ، وهو يبيِّن أن ابن عباس صحّ له نهي النبيَّ صلىاللهعليهوسلم عن المتعة الشرطيَّة ، وأنه رجع عن إحلالها إلى تحريمها. وقوله : «إلّا شَفى» أي إلا أن يُشْفي أي يُشرف أي على الزنى ولا يواقِعه ، أقام الاسم ـ وهو الشَفَى ـ مُقام المصدر الحقيقيّ ، وهو الإشفاء على الشيء ، وحَرْف كلّ شيء شفاه ، ومنه قول الله عزوجل : (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) [التوبة : ١٠٩] : وأشفى على الهلاك إذا أشرف عليه. وإنما بيَّنت هذا البيان لئلا يغُرّ بعضُ الرافضة غِرّ من المسلمين فيُحِلّ له ما حرّمه الله جلّ وعزّ على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فإن النهي عن المُتعة الشرطية صحّ من جهات لو لم يكن فيه غير ما رُوِي عن علي بن أبي طالب ونهيه ابن عباس عنها لكان كافياً. والله المسدّد والموفّق ، لا شريك له ولا نَدِيد.
وأمّا قول الله جلَّ وعزَّ : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ