رفعاً بدلاً من (لا عاصِمَ). قال أبو العباس : وهذا خَلْف من الكلام ، لا يكون الفاعل في تأويل المفعول إلا شاذّاً في كلامهم ، والمرحوم معصوم والأول عاصم. و (مِنَ) نَصْب باستثناء المنقطع. وهذا الذي قاله الأخفش يجوز في الشذوذ الذي لا ينقاس. وقال الزجَّاج في قوله تعالى : (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) [هود : ٤٣] أي يمنعني من الماء. والمعنى : من تغريق الماء. قال : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) هذا استثناء ليس من الأول وموضع (مِنَ) نَصْب ، المعنى : لكن من رحم اللهُ فإنه معصوم. قال : وقالوا : يجوز أن يكون عاصم في معنى معصوم ، ويكون معنى (لا عاصِمَ) : لا ذا عصمة ، وتكون (مِنَ) في موضع رفع ، ويكون المعنى : لا معصوم إلا المرحوم. قلت : والحُذَّاق من النحويين اتّفقوا على أن قوله : (لا عاصِمَ) بمعنى لا مانع ، وأنه فاعل لا مفعول ، وأن (مَنْ) نصب على الانقطاع. والعِصْمة في كلام العرب : المَنْع. وعِصْمة الله عبدَه : أن يعصمه ممَّا يُوبِقه. واعتصم فلان بالله إذا امتنع به. واستعصم إذا امتنع وأبى ، قال الله تعالى حكاية عن امرأة العزيز في أمر يوسف حين راودته عن نفسه : فَاسْتَعْصَمَ [يوسف : ٣٢] أي تأبّى عليها ولم يجبها إلى ما طَلَبت. قلت : والعرب تقول : أعصمت بمعنى اعتصمت.
ومنه قول أوْس بن حَجَر :
فأشرط فيها نفسه وهو مُعْصِم |
وألقى بأسبابٍ له وتوكّلا |
أي وهو معتصم بالحبل الذي دَلّاه. ويقال للراكب إذا تقحَّم به بَعيرٌ صَعْب فامتسَك بواسط رَحْله أو بقَرَبوس سَرْجه لئلا يُصرَع : قد أعْصَم فهو مُعْصِم. وقال الراجز :
أقول والناقةُ بي تَقَحَّمُ |
وأنا منها مُكْلئزّ مُعْصِم |
وروى أبو عُبيد عن أبي عمرو : أعصم الرجل بصاحبه إعصاماً إذا لزِمه ، وكذلك أخلد به إخلاداً.
وقال ابن المظفر : أعصم إذا لجأ إلى الشيء وأعصم به. وقول الله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) [آل عمران : ١٠٣] أي تمسَّكوا بعهد الله. وكذلك قوله : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) [آل عمران : ١٠١] أي من يتمسَّك بحبله وعهده. وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه ذكر النساء المختالات المتبرِّجات فقال : «لا يدخل الجنَّة منهن إلّا مِثْلُ الغراب الأعصم». قال أبو عبيد : الغراب الأعصم : هو الأبيض اليدين. ومنه قيل للوُعُول : عُصْم ، والأنثى منهنّ عَصْماء والذكر أعصم ، لبياض في أيديها. قال : وهذا الوصف في الغربان عزيز لا يكاد يوجد ، وإنما أرجلها حُمْر. قال : وأمَّا هذا الأبيض الظهرِ والبطن فهو الأبقع ، وذلك كثير ، قال : فيرى أن معنى الحديث : أن من يدخل الجنَّة من النساء قليل كقِلَّة الغِربان العُصْم عند الغِربان السُود والبُقْع. قلت : وقد ذكر ابن قتيبة