ولما نظر ابن مسعود (١) إلى اختلاف النوعين ، ماء السماء ، وماء الأرض ، قرأ : (فالتقى الماءان) (٢) كما جاء : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا)(٣) بالجمع. ولم يقل : تظنون بالله الظن ، إذ كل واحد منهم ظنّ ظنا مخالفا ، لظنّ صاحبه. ألا ترى أن المؤمنين تيقّنوا بالنصرة ، والمنافقين يظنّون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية.
قال سيبويه : قد جاء الحلوم والأشغال (٤) ، لاختلاف الأنواع. ولما كان الفعل ، نحو : أكل يأكل ، يتناول جنس الأفعال ، لم يستجيزوا فيه التثنية ، والجمع ، لما ذكرنا. وقد قالوا : زيد أفضل من عمرو ، والزيدان أفضل من عمرو ، والزيدون أفضل من عمرو ، فلم يثنوا ، ولم يجمعوا. قال أبو بكر محمد بن السري (٥) ، لأن قولهم : زيد أفضل من عمرو ، معناه : يزيد فضله على فضل عمرو.
فلما كان (أفضل) اسما صريحا كسائر الأسماء. وتضمن معنى المصدر ، لم يستجيزوا فيه التثنية ، والجمع. والفعل ، أيضا ، نحو : أكل ، تضمن معنى الأكل ، ولم يستجيزوا فيه التثنية ، والجمع ، فما ظنك بالمصدر؟! وكل ذلك رفض في هذه الأشياء من أجله. [٥٨ / أ]
[قال أبو الفتح] : واعلم أن الفعل ، يعمل في جميع ضروب المصادر ، من المبهم ، والمختصّ.
تقول في المبهم : قمت قياما ، وانطلقت انطلاقا. وفي المختص : قمت القيام الذي تعلم ، وذهبت الذهاب الذي تعرف. ويعمل ، أيضا ، فيما كان من غير فعله الذي أخذ منه. تقول : قعد القرفصاء (٦) ، واشتمل الصّمّاء (٧) ، ورجع القهقرى ، وسار الجمزى (٨) ، وعدا البشكى (٩).
[قلت] : أما عمله في المبهم ، فلا شك فيه ، لأن الفعل مبهم نكرة ، فجاز أن يعمل في مطابقه. وأما عمله في المختص ، فإن المختص ، وإن كان أعلى منه في الاختصاص ، فلا يخرج عن كونه ضربا منه. فإذا قلت : قمت القيام الذي تعرف ، فالقيام المعروف نوع من جنس القيام. فجاز أن يعمل فيه (قمت) ، لأنه يقتضي ما يتناول هذا وغيره. وأما قوله : قعد القرفصاء ، فقد اختلف
__________________
(١) هو : عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ (ت ٣٢ ه). أحد السابقين ، والبدريين ، والعلماء. أول من أفشى القرآن من في رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وإليه تنتهي قراءة : عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، والأعمش. ينظر : غاية النهاية ٤٥٨ ، ٤٥٩.
(٢) ٥٤ : سورة القمر ١٢. الكشاف ٤ : ٣٧ ، وتفسير الرازي ٢٩ : ٣٩ ، وتفسير القرطبي ١٧ : ١٣٢ ، والبحر المحيط ٨ : ١٧٧.
(٣) ٣٣ : سورة الأحزاب ١٠.
(٤) الكتاب ٣ : ٤٠١.
(٥) هو : ابن السراج.
(٦) القرفصاء : ضرب من القعود ، وهو أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ، ويحتبي بيديه ، يضعهما على ساقيه. اللسان (قرفص) ٧ : ٧٢.
(٧) الصماء : أن يشتمل بثوب واحد ، ويتغطى به ، ثم يرفعه من أحد جانبيه واضعا إياه على منكبيه. اللسان (صمم) ١٢ : ٣٤٦.
(٨) الجمزى : عدو دون الحضر الشديد. اللسان (جمز) ٥ : ٣٢٣.
(٩) البشكى : العدو السريع. اللسان (بشك) ١٠ : ٤٠١.