يتأتى هذا القول إلا أن يكون الخطاب لليهود ، وفيه بعد. والقولان بعده يكون الميثاق فيهما مجاز ، والأجود حمله على ميثاق البيعة ، إذ هو حقيقة فيه ، وفي قوله : إذ قلتم سمعنا وأطعنا.
(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : واتقوا الله ولا تتناسوا نعمته ، ولا تنقضوا ميثاقه. وتقدم شرح شبه هذه الجملة في النساء فأغنى عن إعادته.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء ، إلا أنّ هناك بدئ بالقسط ، وهنا أخر. وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة. ويلزم من كان قائما لله أن يكون شاهدا بالقسط ، ومن كان قائما بالقسط أن يكون قائما لله ، إلا أنّ التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدئ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن ، فبدئ فيها بالقيام لله تعالى أولا لأنه أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدئ فيه بما هو آكد وهو القسط ، وفي معرض العداوة والشنآن بدئ فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض بما جيء به إليه. وأيضا فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض وقوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) (١) وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا) (٢) فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط ، وتعدية يجرمنكم بعلى إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها ، وهو خلاف الأصل.
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي : العدل نهاهم أولا أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانيا تأكيدا ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : هو أقرب للتقوى ، أي : أدخل في مناسبتها ، أو أقرب لكونه لطفا فيها. وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل ، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين.
(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى ، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ، ولكنها تختص بما لطف إدراكه ، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية.
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ١٢٩.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١٢٨٠.